مقدمـــة
الحنجرة العربية عبر التاريخ كانت تعتمد على (الآه..),ومن اجل هذا اخترعنا الة النفخ بواسطة الفم_اخترعنا الشبابه_اخترعنا اله العزف_على الفم_كان الفم يلعب دوره بالنسبة الى الاذن العربية,اما اليد العربيه,فلقد كانت غائبه تماما_
كان علينا ان نقطع مسافة طويلع بالاميال والكيلومترات الصوتيه,بين الفم وبين الاصابع..
لقد كان على اليد العربيه ,على الاصابع العربيه,ان تقدم اوراق اعتمادها,لبلاط الموسيقى العربيه.
انك لا يمكن ان تطلق الانين من فمك من رئتيك طول الوقت..تلعب الاصابع دورها التاريخي,حين تقوم بالعزف على لبيانو,او على اوتار الكمنجة...او فوق البزق...او فوق مختلف الالات الموسيقه,التي تقوم فيها الاصابع..بدور البطوله الموسيقيه.
من اجل هذا كله ,كان(التخت الموسيقي العربي)يقوم دائما على الة واحدة..كان يقوم على(شبابه الراعي),او على الناي,حيث يتم الغناء بواسطه (الآه),بواسطه الفم,وبكل ما في الرئتين من الهواء..وحين انتقلنا من مرحله (الفم),ومن مرحله العزف بالفم,الى مرحله الموسيقى,الى مرحله العزف باصابع اليدين,كانت الطبله_الاسف الشديد_ضابط الايقاع_اي ضارب الطبله_هو المايسترو_.
ان عظمة السيد درويش,تكمن في انه انتقل بنا,من مرحله الناي والطبله,الى مرحله الاوركسترا,من مرحله(البزق التركي),الى مرحله الموسيقى العربيه ذات الآلات المتعددة,الى مرحله الاوبريت.
بعد سيد درويش,برزت ام كلثوم والى جانبها كان محمد عبد الوهاب,لقد برز دور القصيدة العربيه المغناة ولاول مرة تصبح للقصيدة العربيه دورها,في الاغنيه العربيه,وفي الموسيقى العربيه.لقد بدأ محمد عبد الوهاب يغني لاحمد شوقي...وبعده بأكثر من عشرين عاما,بدأت ام كلتوم تلتقط بأذنها صوت الجماهير العربيه,وبدأت هي الاخرى تغني القصائد.
في البدء كان محمد عبد الوهاب يغني:
يا شؤاعا وراء دجله يجري..
في عيوني تجنبتك العوادي..
وبعد عشرين عامل جائت ام كلثوم لتغني ولاحمد شوقي نفسه:
سلوا قلبي,غدا سلا وتابا
لعل على الجمال له عتابا..
ولكن المفاجأة الكبرى,كانت صوت عبد الحليم حافظ,وصوت المغني,لا يبرز,الا في الازمات الكبرى ,التي تواجهها امة من الامم..,فلقد بدأ عصر التحولات الاجتماعيه الجديدة في مصر,بدأ عصر تأميم قناة السويس,وعصر الانتفاضه الوطنيه الكبرى.
ان الذي كتب نشيد المارسلييز الفرنسي,لم يكن غير شاعر مجهول,ولكنه شاعر عرف كيف يربط مصيره,بجماهير الامه الفرنسيه,حتى اصبح نشيده,او قصيدته هو النشيد الوطني لامة بأكلها.
وهذا تماما,ما فعله عبد الحليم حافظ,حينما بدأ مرحله العزف على اوتار الكمنجه الوطنيه,حينما بدأ العزف بأصابع يديه,على امشاط البيانو الوطني,فكرس صوته وموسيقاه للوطن,لتأميم قناة السويس ضد العنوان الثلاثي ومن اجل السد العالي.
والجماهير التي كرهت المواويل الطويله,اندفعت بشدة نحو القصيدة القصير,الجماهير التي ارادت الانتقال,من مرحله(الناي),الى مرحله(البيانو),وجدت في عبد الحليم حافظ,ضالتها المنشودة,لقد تم الانتقال اذا,وهذة ليست غير قصه ذلك الانتقال,قصة ذلك الصوت العربي,الذي عزف,كيف يجعل من الموسيقى ومن الكلمة,ذلك الخبز اليومي للناس,لكل الناس.
وهذة هي قصه عبد الحليم حافظ,يلا مكياج..بلا باروكه..وبلا قفازات..
كان كتاب التوصية الوحيد بالنسبة لعبد الحليم حافظ هو صوته,وبالنسبة للفنان تكون حباله الصوتيه,هي الحبال التي يصعد عليها الى القمة،او تلتف حول عنقة كالمشنقة...
(الخنجر حتى المقبض في الصدر..)
كان فرانك سيناترا المغني الامريكي المعروف يخاف لدرجة الارتعاش من شيئين:كان يخاف من المكرفون،وكان يخاف من الاضواء.وكما كان يقول دائما,في اللقاءات الصحفية:ان المكرفون ضد الصوت الكاذب،وكذلك الاضواء فهي ضد الوجه الكاذب.
ومع صدق صوت ووجه فرانك سيناترا المغني الامريكي الشعبي،الذي اصبح اشهر من شلالات نياغرا,فان الفنان في خوف دائم من الكاميرا ومن المكرفون.
ولو صدق فرانك سيناترا مع نفسه اكثر,لقال انه يخاف من ثلاثة اشياء,يخاف من الكاميرا,ومن المكرفون ومن الجمهور,فالجمهور بالنسبه الى المغني,بالنسبة الى الفنان الذي يؤدي بصوته,هو ذلك الرقيب ذو الاذن الموسيقيه المدربه,فاما ان يتسلق المغني الى ناطحة السحاب الفنية,وفوق حباله الصوتيه,او تصبح الحبال الصوتيه مشنقة المغني.
وعبد الحليم حافظ الذي بلغ صوته(الاوج) خلال المعركه الوطنيه لوطنه,فانضم بصوته الى صيحات المحاربين ضد العدوان الثلاثي على مصر,ثم انضم بصوته الى صيحات سواعد العمال المصريين وهم يقيمون السد العالي,ثم وقف بحنجرته الى جانب القلب المصري,والقلب العربي,اينما كان.ان عبد الحليم حافظ هو بلا شك _ابن التراب_المصري الاسمر...فلم يتعلم الآه فقط,من ذلك التراب العظيم,بل تعلم منه الفرحه ايضا.
وعبد الحليم شأنه شأن كل فنان,لم يمشي فوق طريق مبلطه بالفسيفساء,ولا فوق طريق مفروشة بالسجاجيد الفارسيه,فلقد مشى بقدميه فوق الشوك,حتى تسلخت القدمان وهو ايضا,لم يقف امام المكرفون بتوصيه من احد,فكتاب التوصيه الوحيد بالنسبة لعبد الحليم حافظ,كان صوته...وصوته فقط.
اذا لقد بدأ عبد الحليم حافظ صعود القمة من الصخرى الاولى في القاع.
ولماذا نتكلم نحن طول الوقت,لماذا لا نقدم المكرفون لعبد الحليم حافظ نفسه,لكي يتكلم ويروي قصه حياته.
والمكرفون الان في يد عبد الحليم حافظ,وفوق فمه,بينما الة التسجيل تدور لتسجل قصه حياته,وبينما الكمرا تدور ايضا ,لتسجل بالصور مسيرة تلك الحياة.
اما عبد الحليم حافظ:
لقد بدأت حياتي بمأساة.لم اولد وملعقة من فضة,او شوكة من ذهب في فمي,لقد ولدت وفي فمي ملعقه من الشوك.
فلقد ماتت امي...قبل ان اراها,ومن اجل ان تكتمل حلقات المأساة,مات ابي بعد امي بأسبوعين,الام اولا ثم الاب,تماما كما يفعل طائر البجع العظيم,فحينما تموت الانثى,يحزن عليها الذكر,ذلك الحزن الذي يفضي الى الموت,وهكذا مات ابي.
وكان لا بد ان ننتقل انا واخوتي الاربعة الى الزقازيق,لم يكن امامنا,الا ان نطرق باب خالنا الموظف,وذي الدخل المحدود.
اريد ان اسجل هنا ,انني وصلت الزقازيق,ومن قريتنا(الحلوات)ولم يكن عمري يتجاوز الاربعة اشهر.
كانت زجاجة الحليب لا تزال في فمي,وكان حليبا ممزوجا بالخل,فالطفل رغم انه لا يعي,حينما يفقد اباه وامه معا,الا انه يحس احساسا بطانيا بالفاجعة,يحس انه قد انكسر من الداخل,ويحتاج الى سنوات طويله لكي يضمد الجرح او الكسر.
هكذا بدأت حياتي اذا ,بدأت بتضميد الجرح.ان شريط ايام الطفولة,يمر كما تمر الظلال فوق ارصفة شوارع الحياة,والظلال لا تتجمد ابدا ولا تتحجر,انها تسير دائما الى الامام,انها تتبع الرجل الذي يسير.
وها انذا احاول ان التقط من فوق ارصفه حياتي,بعض الظلال لاقدمها الى القاريء...
انا لا اكاد اذكر حتى وجه خالتي,التي تولت شؤون تربيتي,بعد وفاة امي,لماذا ينسى الطفل كل الوجوه؟
ان مأساتي تشبة مآسي كل الاطفال,فهم يتذكرون الايدي التي تمتد لهم بالحلوى,وينسون الوجوه التي تبتسم من اجلهم.
كانت خالتي تحدثني دائما عن وجهي,كانها لا تذكر غير هذا الوجه,وكان الشيء الوحيد المميز في حياتي,هو وجهي.هل يمكن ان يتصور القراء مأساتي,انا الذي ادين بشهرتي,لصوتي,لم يكن اي صوت مميز,بل كان لي ذلك الوجه المميز.
ولكن ما الذي كان يجذب للعيون,الى وجهي فالكلمة وكما تقول خالتي,كان الحزن هو الذي يجذب الى العيون,كما يجذب حجر المغناطيس اليه الابر من الفولاذ.
كنت حزينا من اللحظة الاولى,او من العام الاول.كأنني كنت احس,وانا لا اعي,انني فقدت امي اولا,ثم فقدت بعدها ابي.
كان خالي رحيما بي,كان بامكانه ان يلقي بي في احد اركان حجرات البيت,ولا يرسل بي الى المدرسه.فلقد كان موظفا بدخل محدود.
ومع ذلك ارسل بي خالي الى المدرسه,ارسل بي الى اهل(الكتاتيب)وفي الكتاب,بدأت اتعلم القراءة والكتابة,وانا طفل في الرابعة من عمري.
هل تصدقون ان الخوف,كان بدء المعرفه بالنسبه لي,فلقد كنت اخاف من (عريف الكتاب),حتى لا ينهال علي بكفه.كما كنت اخاف من شيخ (الكتاب),حتى لا ينهال علي بعصاه.
ذات يوم حاولت ان اهرب لاول مرة في حياتي,اقد ضقت بحياة الكتاب,ضقت بالشيخ وبصبيه الذي يسمونه العريف,واردت ان اهرب,كنت اريد ان امارس طفولتي بكل ما فيها من عبث كما يمارسها كل الاطفال,وللوهلة الاولى خيل الي وانا اسير بمحاذاة الخط الحديدي,انني لن اتوه ابدا,وانني استطيع العودة ثانية الى القرية.ولكن الذي حدث انني وجدت نفسي في قريه ثانيه,في قرية غريبة تماما عني ولا اعرفها.
ولقد بكيت,ماذا يفعل الطفل حينما يضيع غير ان يبكي.لا بد ان ينادي الطفل في حالة الضياع عن امه وينادي على ابية.فرحت انادي عليهما,وهما كانا تحت التراب,هل يوجد افظع من هذة المأساة,ان يقوم الطفل بالنداء على شيء مفقود.
ولقد ظللت ابكي حتى اغمي علي,وصحوت على يد امرأة تحملني,كان الوجه الاول الذي لن انساه طيلة حياتي,رغم انني قد نسيت الاسم.لقد حملتني تلك المرأة الطيبه الى بيتها.وبعد ان اطعمتني والطفل يأكل من يد غير يد امه_سألتني عن القريه التي جئت منها_الزقازيق_ وكان اسم البلدة هو اول الخيط الذي امسكت به السيدة لتعود بي الى بيتي.
كان خالي مدفوعا بحب خالتي لي,يطوف الشوارع ويستأجر المنادين,لكي ينادوا على طفل ضائع..وارجعتني السيدة الطيبى الى الزقازيق..عرفت حينما كبرت ان المكافأة التي تطلبها هي شيء واحد,ان لا اعود الى الكتاب,ان لا اعود الى عكاز الشيخ,ولا الى يد العريف في كتاب الشيخ وهكذا كان.
لم اعد اذهب الى الكتاب,واحضر لي خالي مدرسا خاصا ليقوم بتعليمي,حتى اكون مؤهلا لدخول المرحله الابتدائية,وهذا ما تم بالفعل,فلقد التحقت بالسنة الابتدائيه وانا لم اتم السادسة من العمر.
خلال تلك المرحلة,في المدرسة الابتدائية,وقع لي حادث,كاد يغير مجرى حياتي كلها.كدت افقد ساقي وانا كنت على استعداد ان افقد اي شيء الا ان افقد ساقي,فأنا اكره ان اعرج وان اسير على عكاز,كنت اكره العكاز تماما..
غير انني سلمت من العجز,نجوت من ذلك الباب الخشبي الذي سقط فوقي..وتحول ذلك الباب من باب يسقط فوقي الى باب يفتح امامي..وهذا ما حدث..
هل يمكن ان استريح الان قليلا..
الى الفصل الثاني اذا..
كان صوت محمد عبد الوهاب هو المغامرة الاولى في حياتي..وبعده بدأت الموسيقى,تقوم بدورتها الدمويه في شراييني.
الفـــصل الثـــاني
كنا نسمع بذلك الاسم:محمد عبد الوهاب,وكان اسما غامضا بالنسبة لنا,وكان لا يعني شيئا محددا ابدا.فحين يلتف رجال البوليس حول خيمة كبيرة قد نصبت في ميدان البلدة,فما الذي يعني هذا.
غير انني فوجئت ومعي كل الاطفال خلف السرداق,بذلك الصوت الرائع ينطلق من خلف جدران السرداق.ولقد كان الصوت هو صوت محمد عبد الوهاب.
لا ادري لماذا كنت ارتعش طول الوقت,وانا اصغي اليه,وهو يغني,كان بالفعل ذلك الصوت الرائع العظيم,الذي يتسلل الى الدم.هكذا كان احساسي بصوت محمد عبد الوهاب,وانا لا ازال في السابعة من عمري.
وتابعت دراستي في المدرسة الابتدائيه,غير ان صوت محمد عبد الوهاب قد سقط علي واثر في مجرى حياتي,تماما كما سقط علي ذلك الباب الخشبي.
في المدرسة الابتدائية,لم اتعلق الا بمدرس واحد,وهو مدرس الموسيقى وكان اسمه محمود حنفي.
لقد اعجبه صوتي وانا طفل فجعلني رئيس فرقه الاناشيد المدرسية.ولم يكتفي باعطائي الدروس الخاصة في المدرسة,بل استأذن ناظر المدرسة,في ان اذهب الى مدرسة الايتام لاحضر دروسه الموسيقيه هناك,وهذا ما كان.
هذا المدرس الكبير,الذي اسمه محمود حنفي,لا يمكن ان انساه طول حياتي,فهو الذي لعب الدور الاول بالنسبة لي,هو الذي قادني,الى ذلك العالم الذي اسمه عالم الصوت وعالم الموسيقى.
كان اخي الاكبر اسماعيل شبانه بمعهد الموسيقى في القاهرة.وكان لاخي الدور الثاني بعد دور مدرسي محمود حنفي,في اغرائي بالذهاب الى ذلك المعهد.
وامام اصراري وافق خالي,على سفري مع شقيقي اسماعيل شبانه الى القاهرة.وحملت اوراقي وذهبت الى المعهد,ولكنهم للاسف الشديد رفضوا طلبي,لقد كنت دون الثانيه عشرة من العمر.وكان علي ان اقضي عاما كاملا,خارج اسوار جدران المعهد,لكي يتم قبولي في العام التالي.وهذا ما حدث.
لقد بدأت دورة جديدة من دورات الدم في حياتي.لقد بدأت الموسيقى تقوم بدورتها...بدأت تمتزج بكرات الدم الابيض والحمراء,بدأت تجري في شراييني,صدقوني لا يوجد اعظم من موسيقى الدم الصامتة.
كانت حياة رائعه في المعهد,فلا يوجد ما هو اجمل من ان يكون الانسان في المكان الذي يحبه.
انتهت دراستي بالمعهد,وكان علي ان اواصل طريق حياتي.كانت الحكومه,قد فتحت حديثا معهدا اخر للدراسات الموسيقيه العليا,وكان اسم المعهد,هو معهد الموسيقى المسرحية.هناك في المعهد العالي,لفتت نظري تلك الالة الموسيقيه النادرة,وكانت الة تسمى (الابوا).
كانت تلك الالة بالنسبة لي,بمثابة الجمع,بين دراسة الصوت من جانب,ودراسه الموسيقى من الجانب الاخر.
وتخرجت من معهد الموسيقى العالي عام 1949.وهنا لا بد وان اتوقف قليلا.
لا بد وان اقول,ان الفنان لا يصعد الى القمة ابدا في خط مستقيم,انه يصعد ويسقط,ويسير في دروب غير سالكة ابدا.
والشهرة بالنسبة الى الفنان ايضا,ليست ابدا ذلك النبات الشيطاني,ذلك النبات الطفيلي الذي ينمو ويترعرع ويزهر فجأة.ان الشهرة بطيئة النمو تماما,وتحتاج الى شلال من العرق والدم.هذا ما اريد ان اقوله,بعد ان تخرجت من معهد الموسيقى العالي عام 1949وبدأت اضع قدمي على اول الطريق الى اليكرفون.
في معهد الموسيقى تعرفت لاول مرة على كمال الطويل,وشأنه شأن كل الموسيقيين الكبار,لم يكن يتصور انه سيكون ذات يوم,احد الملحنيين المرموقين في حياتنا الموسيقية.
ان اسم كمال الطويل يرتبط في حياتي,بحادث معين,فلقد اقترح كمال الطويل,ان نمضي جانبا من الصيف في الاسكندريه ووافقت على البحر.كان البحر بالنسبة لي هو الاغراء الاكبر الذي لا استطيع صده ابدا.
كنت املك اربعين جنيها,ادخرتها على مر خمس سنوات,وكان هو يملك ستين جنيها.وهكذا سافرنا الى الاسكندرية وفي جيوبنا مائة جنية بالتمام والكمال.
وبالطبع فلم تكفنا المائة جنية,لمدة اسبوعين,بعدها صحونا بجيوب فارغه,ولكن مهارة كمال الطويل في التنقل بين البقالين,جعلنا نواجه الجوع.
حينما عدت الى القاهرة,بعد ذلك الصيف الساخن,او بعد ذلك الصيف المفلس, كان لا بد ان اعمل شيئا,اضافيا الى جانب عملي,كمدرس موسيقي للبنات.فأشتغلت عازفا في فرقه الاذاعة.
في تلك المرحلة,بدأت دراسة جديدة,لم تكن دراسه في الكتب الموسيقيه,ولا من النوتات الموسيقيه,كانت دراسة على الطبيعه.كنت ادرس اصوات الموسيقيين,الذين يغنون اماما مكرفون الاذاعة,كنت ادرس اسلوب الايداء,وامكانيه الحبال الصوتيه.وكان رفيق الطريق هو كمال الطويل,في هذة الدراسه المضنية.
فجأة....وعلى غير انتظار,عين كمال الطويل مراقبا موسيقيا في الاذاعة,وانطلقت لزيارته بعد غياب طويل,وحينما ابصرني كمال الطويل صاح:
_اين اختفيت,كل ذلك الوقت...اكتب طلبا في الحال,لتعمل مطربا في الاذاعة.
وهكذا بدأت عملي كمطرب رسمي,في اذاعة رسمية,ومن هذة الزاويه بدأت متاعبي,لقد اعطوني كلاما رديئا لاغنية.وبالطبع كان علي ان ارفض تلك الاغنيه الرديئة.وبدأت متاعبي وبدأت اقف على قدمي,فوق ارض الاغنية,كان علي ان اغني الكلمات التي احبها,لا الكلمات التي تفرض علي فرضا.
كنت احب الشعر,وفي قريتنا (الحلوات),التقيت بقريب لي وكان اسمه صلاح عبد الصبور_وهو الشاعر المعروف الان,فكتب لي اول اغنية باللغة الفصحى,وكان اسمها لقاء.فهرعت بها الى كمال الطويل,وطلبت منه ان يقوم بتلحينها.وكانت الاغنية الاولى في حيـــاتي.
الفصل الثالث
في حياتي كفنان,امتدت بعض الايدي لتسندني,كانت يد كمال الطويل اولا,ثم يد محمد حسن الشجاعي ثانيا...ثم يد محمد عبد الوهاب.
كما لعب في حياتي,دوره البارز,كمال الطويل,فلقد جاء الموسيقار محمد حسن الشجاعي ليلعب دوره ايضا.وكان الدور الذي لعبه الشجاعي في حياتي,هو توجيهه لي,بدراسة الآلات الموسيقيه.لقد قال لي:
_ان دراسة الالات تصقل مخارج الصوت,وتنمي حصيله المطرب,وتنمي طاقته.وتجعله اكثر قدرة على معرفه امكانات صوته ومن اجل هذا وفي هذا الاتجاه التحقت بمعهد الآلات الموسيقيه.وتخصصت في الة (الابوا) ولم يكن يعزفها في مصر غير ثلاثه العازفين,كنت انا احدهم.
هكذا بدأت علاقتي,بالآلات الموسيقيه,بدأت من خلال آله (الابوا).
بعد ذلك كان علي ان اغني ولم يكن امامي غير الصديق القديم كمال الطويل.ولكن قاتل الله الكسل,فلقد كان كمال الطويل كسولا,ولم يكن يمكنني الانتظار طويلا,ومن اجل هذا لجأت الى ملحنين آخرين.
لقد بدأت ابحث عن الة موسيقيه تلحن لي.وخلال عمليه البحث,عن تلك الالة الموسيقيه,تعرفت على محمد الموجي,وبهذة المعرفه بدأت صفحة جديدة في حياتي.
لقد كان الموجييمثل بالنسبة لي الانطلاقه الجديدة في الموسيقى,لم يكن آلة موسيقيه تقليديه.كان الموجي يكرة الجمود ويكره التحجر في السلم الموسيقي,ومن اجل هذا احببته.ربما لانني انا نفسي كنت ضد الاصوات التقليديه في الغناء,كنت ابحث عن اداء جديد,وعن اسلوب جديد في الغناء,ومن اجل هذا توطدت علاقتي بمحمد الموجي.
في ذلك الوقت كانت هيئة الاذاعة قد شكلت لجنة جديدة للاستماع,واضافت اليها اكبر اسمين في الغناء,اسم ام كلثوم ,واسم محمد عبد الوهاب.
ومن الصدف او الفرص النادرة في الحياة,ان يلفت صوتي انتباه السيدة ام كلثوم,ومحمد عبد الوهاب الذي حين استمع الى تسجيلاتي الغنائيه,طلب من حافظ عبد الوهاب ان يعرفني به. وهكذا ومن خلال حافظ عبد الوهاب تم اول لقاء بيني وبين محمد عبد الوهاب. كانت التوصيه الكبرى بالنسبة لي,ليست بطاقة من احد,ولكن كانت تسجيلاتي الصوتيه,التي استمع الها محمد عبد الوهاب واعجب بها.
لقد ارتجفت قبل ان اواجهه,وحينما صافحته ارتعشت اكثر,كنت احس كأنني امسك بسلك مكهرب في يدي.كان بالنسبة لي فارس الحلم,وفارس الامل معا.كنت اقف لاول مرة في حياتي امام النموذج,امام البطل بالنسبة لي.
في مكتب محمد عبد الوهاب كانت المفاجأة الكبرى بالنسبة لي ,حين قال محمد عبد الوهاب:
_اريد ان استمع لصوتك...
كانت فرصة العمر بالنسبة لي,فأنطلقت اغني,جبل التوباد,وكانت بصوت محمد عبد الوهاب,ومن الحانه الرائعة.
كنت خائفا وانا اغني,كان العرق يتصبب من جبيني,كنت اخاف من فشل التجربه,امام ذلك الموسيقار الكبير.
وترقرقت دمعة في عيني واذا بدمعة اخرى تترقرق في عينيه,عندها عرفت ان التجربه قد نجحت,وانني قد فزت بصوت محمد عبد الوهاب الى جانبي.
وترقبت بلهفة رأي محمد عبد الوهاب وكانت اللمسة الكهربائيه في حياتي حينما قال:
لقد قلدني عشرات ومئات المطربين..كلهم حاولوا ان يكونوا نسخا مكررة مني..انك الصوت الاول,الذي ارتفع فوق مستوى التقليد,انك تغني محمد عبد الوهاب ولكن بأحساس عبد الحليم حافظ,بأحساسه وانفعاله,وشخصية صوته المستقلة.
وانهى محمد عبد الوهاب كلامه لي قائلا:
_حافظ دائما على صوتك المستقل,وعلى شخصيتك المستقلة,حذار ان تقع في فخ التقليد,عندئذ تكون كالغراب,الذي حاول تقليد العصفور فلم يشفع تقليده, ولا استطاع العودة الى مشيته الاولى.
_((انني في حاجه الى صوتك...))
لقد قال هذا محمد عبد الوهاب.قال هذا بصوته حينئذ,احسست بأن قمرا اخضر يرفرف فوق كتفي.
ومضت ايام,وانا انتظر محمد عبد الوهاب,انتظر ان اغني له...ورغم انني وقعت عقدا لمدة ثلاثه سنوات,الا انني لم اغن لحنا واحدا له.وبدأ القلق يهزني..بدأت ثقتي في نفسي تتزعزع.
وفي وسط هذة الدوامة.جائني المخرج ابراهيم عمارة.وعرض علي ان اقوم ببطولة فيلم من انتاجه واخراجه.وقبلت على الفور ووقعت العقد في لمح البرق.
لم يكن بأمكاني ان ارفض ابدا.وبعد التوقيع فوجئت بالغضب الاكبر لمحمد عبد الوهاب.ولكنني لاول مرة في حياتي واجهت غضبة بصلابه وشجاعة. ووقفت الجماهير الى جانبي.واصبحت فجأة نجم شارع عماد الدين.وبعد فيلم ابراهيم عمارة ,تعاقدت مع المخرج حلمي حليم.فمثلت فيلمين ( ايامنا الحلوة وليالي الحب)ولقد نجح الفيلمان,نجاحا باهرا.ومن هذة الافلام الثلاثة فتحت لي الشاشة الكبيرة ذراعيها.وهكذا احسست بالشمس تشرق بين عيني.شعرت بأن امل الانسان لا يمكن ان يقهر,وان الاصرار على مواصلة السير ,سيكون نتيجته بلوغ الامل..
الفصل الرابع
هنالك فارق بسيط بين قطرات العرق وبين احجار الماس,وعلى الفنان ان يعرف هذا الفارق البسيط والا مات..
كانت المواجهة الاولى هي تلك المواجهة التي تمت بيني وبين متعهد الحفلات المعروف في الاسكندرية,اسمه صديق احمد.لقد طلب مني في اول حفلات لي بالاسكندرية ان اغني لمحمد عبد الوهاب,ولكنن قلت له:
_سأغني لعبد الحليم حافظ.
وفوجىء متعهد الحفلات,فوجىء بمطرب ناشيء يتمرد عليه ,وحاول اقناعي بمختلف الاساليب ولكنني تمسكت بموقفي,عندها ادار ظهره لي وهو يقول:
_اذا فلن تصل ابدا.
ومع ذلك فلقد وصلت.اقصد ان الفنان الذي يقول نعم دائما ولا يقول كلمة لا,لا يمكن ان يصل,فعلى الفنان ان يعرف متى يقول كلمة نعم,ومتى يقول كلمة لا,ولو كلفته هذة الكلمة سنوات طويلة من الجوع والعطش والعذاب.
ولقد كلفتني كلمة (لا)لمتعهد الحفلات,كثيرا,لقد كان الفشل الاول بالنسبة لي,انهم يطلبون مني الاغنيات القديمة,التي تعودت عليها اذانهم على مر السنين.فلماذا لا تتعود اذانهم على الحان جديدة,وعلى اغنيات جديدة.كان لا بد وان ينهض فنان بهذة المسؤولية,ولقد خيل لي,ان هذة المسؤولية هي مسؤوليتي.
وانطلقت الى صديقي عبد الغني السيد,قلت له:لماذا لا تغني لمحمد الموجي.
فاجئني عبد الغني السيد:
_ولكن من هو الموجي..انا لم اسمع به..
وكيف تطلب مني ان اغني لملحن مجهول.ولم ايأس وظللت اطارد الموجي حتى فرضت عليه ان يقابل عبد الغني السيد.وفي لقاء الموجي بعبد الغني السيد,اسمعه الموجي لحن (صافيني مرة).
غير ان عبد الغني السيد,لسوء حظه رفض هذا اللحن,الذي نجح فيما بعد نجاحا جماهيريا كبيرا.
ان على الفنانة ان يحاول الخروج على قانون الموسيقى في بعض مراحل حياته,والا تحول الى آلة موسيقيه مهملة.كان علي انا افاجيء الجمهور بأغنية جديدة ولحن جديد,كان علي ان ازعزع ايمانه بالالحان القديمة.وجائت الفرصة,في اعقاب ثورة 23 يوليو 1952.انني اعترف هنا ان الثورة المصرية لعبت الدور الاول الكبير في حياتي.
وفي احدى حفلات اعياد الثورة غنيت اغنيه (صافيني مرة..)فأذا بالصدمة الكهربائية تصيب الجمهور,واذا به يطلب استعادتها للمرة الثانية.
لقد نجحت اخيرا,ولكن اصعب من النجاح مسؤوليه المحافظة على النجاح.كان علي ان احافظ على الآذان الجديدة للجمهور.
وكان علي ان اواصل التجربة.وان اقتحم عرين الاسد.زعرين الاسد بالنسبة لي هو جمهور الاسكندرية,الجمهور العنيد والمتذوق والشديد الحساسيه.واقتحمت عرين الاسد وغنيت امام جمهور الاسكندرية,كل الاغاني التي رفضها المتعهد .واذا بالجمهور يواجهني بعاصفة من التحية,لم يسبق ان لمستها من قبل.
لقد نجحت اذن,اجل لقد نجحت.الجمهور الذي كان يصفر لي في المرة الاولى اصبح يصفق لي.
لقد بدأت مرحله ذوبان الجليد اذا,بيني وبين اسد الاسكندرية.وهكذا استطعت ان انال ثقه اسدين,اسد القاهرة واسد الاسكندرية.وحين يستولي المطرب,على عرينين,يمكنه ان يطمئن الى مستقبله وهذا ما كان. رغم انه لا يوجد في بلادنا حتى الان شركة تأمين واحدة,تؤمن على صوت الفنان,قد تؤمن على سيارته ولكنها لا تؤمن على صوته.رغم ان حوادث الطرق اكثر بكثير من حوادث (الاصوات)
الحنجرة العربية عبر التاريخ كانت تعتمد على (الآه..),ومن اجل هذا اخترعنا الة النفخ بواسطة الفم_اخترعنا الشبابه_اخترعنا اله العزف_على الفم_كان الفم يلعب دوره بالنسبة الى الاذن العربية,اما اليد العربيه,فلقد كانت غائبه تماما_
كان علينا ان نقطع مسافة طويلع بالاميال والكيلومترات الصوتيه,بين الفم وبين الاصابع..
لقد كان على اليد العربيه ,على الاصابع العربيه,ان تقدم اوراق اعتمادها,لبلاط الموسيقى العربيه.
انك لا يمكن ان تطلق الانين من فمك من رئتيك طول الوقت..تلعب الاصابع دورها التاريخي,حين تقوم بالعزف على لبيانو,او على اوتار الكمنجة...او فوق البزق...او فوق مختلف الالات الموسيقه,التي تقوم فيها الاصابع..بدور البطوله الموسيقيه.
من اجل هذا كله ,كان(التخت الموسيقي العربي)يقوم دائما على الة واحدة..كان يقوم على(شبابه الراعي),او على الناي,حيث يتم الغناء بواسطه (الآه),بواسطه الفم,وبكل ما في الرئتين من الهواء..وحين انتقلنا من مرحله (الفم),ومن مرحله العزف بالفم,الى مرحله الموسيقى,الى مرحله العزف باصابع اليدين,كانت الطبله_الاسف الشديد_ضابط الايقاع_اي ضارب الطبله_هو المايسترو_.
ان عظمة السيد درويش,تكمن في انه انتقل بنا,من مرحله الناي والطبله,الى مرحله الاوركسترا,من مرحله(البزق التركي),الى مرحله الموسيقى العربيه ذات الآلات المتعددة,الى مرحله الاوبريت.
بعد سيد درويش,برزت ام كلثوم والى جانبها كان محمد عبد الوهاب,لقد برز دور القصيدة العربيه المغناة ولاول مرة تصبح للقصيدة العربيه دورها,في الاغنيه العربيه,وفي الموسيقى العربيه.لقد بدأ محمد عبد الوهاب يغني لاحمد شوقي...وبعده بأكثر من عشرين عاما,بدأت ام كلتوم تلتقط بأذنها صوت الجماهير العربيه,وبدأت هي الاخرى تغني القصائد.
في البدء كان محمد عبد الوهاب يغني:
يا شؤاعا وراء دجله يجري..
في عيوني تجنبتك العوادي..
وبعد عشرين عامل جائت ام كلثوم لتغني ولاحمد شوقي نفسه:
سلوا قلبي,غدا سلا وتابا
لعل على الجمال له عتابا..
ولكن المفاجأة الكبرى,كانت صوت عبد الحليم حافظ,وصوت المغني,لا يبرز,الا في الازمات الكبرى ,التي تواجهها امة من الامم..,فلقد بدأ عصر التحولات الاجتماعيه الجديدة في مصر,بدأ عصر تأميم قناة السويس,وعصر الانتفاضه الوطنيه الكبرى.
ان الذي كتب نشيد المارسلييز الفرنسي,لم يكن غير شاعر مجهول,ولكنه شاعر عرف كيف يربط مصيره,بجماهير الامه الفرنسيه,حتى اصبح نشيده,او قصيدته هو النشيد الوطني لامة بأكلها.
وهذا تماما,ما فعله عبد الحليم حافظ,حينما بدأ مرحله العزف على اوتار الكمنجه الوطنيه,حينما بدأ العزف بأصابع يديه,على امشاط البيانو الوطني,فكرس صوته وموسيقاه للوطن,لتأميم قناة السويس ضد العنوان الثلاثي ومن اجل السد العالي.
والجماهير التي كرهت المواويل الطويله,اندفعت بشدة نحو القصيدة القصير,الجماهير التي ارادت الانتقال,من مرحله(الناي),الى مرحله(البيانو),وجدت في عبد الحليم حافظ,ضالتها المنشودة,لقد تم الانتقال اذا,وهذة ليست غير قصه ذلك الانتقال,قصة ذلك الصوت العربي,الذي عزف,كيف يجعل من الموسيقى ومن الكلمة,ذلك الخبز اليومي للناس,لكل الناس.
وهذة هي قصه عبد الحليم حافظ,يلا مكياج..بلا باروكه..وبلا قفازات..
كان كتاب التوصية الوحيد بالنسبة لعبد الحليم حافظ هو صوته,وبالنسبة للفنان تكون حباله الصوتيه,هي الحبال التي يصعد عليها الى القمة،او تلتف حول عنقة كالمشنقة...
(الخنجر حتى المقبض في الصدر..)
كان فرانك سيناترا المغني الامريكي المعروف يخاف لدرجة الارتعاش من شيئين:كان يخاف من المكرفون،وكان يخاف من الاضواء.وكما كان يقول دائما,في اللقاءات الصحفية:ان المكرفون ضد الصوت الكاذب،وكذلك الاضواء فهي ضد الوجه الكاذب.
ومع صدق صوت ووجه فرانك سيناترا المغني الامريكي الشعبي،الذي اصبح اشهر من شلالات نياغرا,فان الفنان في خوف دائم من الكاميرا ومن المكرفون.
ولو صدق فرانك سيناترا مع نفسه اكثر,لقال انه يخاف من ثلاثة اشياء,يخاف من الكاميرا,ومن المكرفون ومن الجمهور,فالجمهور بالنسبه الى المغني,بالنسبة الى الفنان الذي يؤدي بصوته,هو ذلك الرقيب ذو الاذن الموسيقيه المدربه,فاما ان يتسلق المغني الى ناطحة السحاب الفنية,وفوق حباله الصوتيه,او تصبح الحبال الصوتيه مشنقة المغني.
وعبد الحليم حافظ الذي بلغ صوته(الاوج) خلال المعركه الوطنيه لوطنه,فانضم بصوته الى صيحات المحاربين ضد العدوان الثلاثي على مصر,ثم انضم بصوته الى صيحات سواعد العمال المصريين وهم يقيمون السد العالي,ثم وقف بحنجرته الى جانب القلب المصري,والقلب العربي,اينما كان.ان عبد الحليم حافظ هو بلا شك _ابن التراب_المصري الاسمر...فلم يتعلم الآه فقط,من ذلك التراب العظيم,بل تعلم منه الفرحه ايضا.
وعبد الحليم شأنه شأن كل فنان,لم يمشي فوق طريق مبلطه بالفسيفساء,ولا فوق طريق مفروشة بالسجاجيد الفارسيه,فلقد مشى بقدميه فوق الشوك,حتى تسلخت القدمان وهو ايضا,لم يقف امام المكرفون بتوصيه من احد,فكتاب التوصيه الوحيد بالنسبة لعبد الحليم حافظ,كان صوته...وصوته فقط.
اذا لقد بدأ عبد الحليم حافظ صعود القمة من الصخرى الاولى في القاع.
ولماذا نتكلم نحن طول الوقت,لماذا لا نقدم المكرفون لعبد الحليم حافظ نفسه,لكي يتكلم ويروي قصه حياته.
والمكرفون الان في يد عبد الحليم حافظ,وفوق فمه,بينما الة التسجيل تدور لتسجل قصه حياته,وبينما الكمرا تدور ايضا ,لتسجل بالصور مسيرة تلك الحياة.
اما عبد الحليم حافظ:
لقد بدأت حياتي بمأساة.لم اولد وملعقة من فضة,او شوكة من ذهب في فمي,لقد ولدت وفي فمي ملعقه من الشوك.
فلقد ماتت امي...قبل ان اراها,ومن اجل ان تكتمل حلقات المأساة,مات ابي بعد امي بأسبوعين,الام اولا ثم الاب,تماما كما يفعل طائر البجع العظيم,فحينما تموت الانثى,يحزن عليها الذكر,ذلك الحزن الذي يفضي الى الموت,وهكذا مات ابي.
وكان لا بد ان ننتقل انا واخوتي الاربعة الى الزقازيق,لم يكن امامنا,الا ان نطرق باب خالنا الموظف,وذي الدخل المحدود.
اريد ان اسجل هنا ,انني وصلت الزقازيق,ومن قريتنا(الحلوات)ولم يكن عمري يتجاوز الاربعة اشهر.
كانت زجاجة الحليب لا تزال في فمي,وكان حليبا ممزوجا بالخل,فالطفل رغم انه لا يعي,حينما يفقد اباه وامه معا,الا انه يحس احساسا بطانيا بالفاجعة,يحس انه قد انكسر من الداخل,ويحتاج الى سنوات طويله لكي يضمد الجرح او الكسر.
هكذا بدأت حياتي اذا ,بدأت بتضميد الجرح.ان شريط ايام الطفولة,يمر كما تمر الظلال فوق ارصفة شوارع الحياة,والظلال لا تتجمد ابدا ولا تتحجر,انها تسير دائما الى الامام,انها تتبع الرجل الذي يسير.
وها انذا احاول ان التقط من فوق ارصفه حياتي,بعض الظلال لاقدمها الى القاريء...
انا لا اكاد اذكر حتى وجه خالتي,التي تولت شؤون تربيتي,بعد وفاة امي,لماذا ينسى الطفل كل الوجوه؟
ان مأساتي تشبة مآسي كل الاطفال,فهم يتذكرون الايدي التي تمتد لهم بالحلوى,وينسون الوجوه التي تبتسم من اجلهم.
كانت خالتي تحدثني دائما عن وجهي,كانها لا تذكر غير هذا الوجه,وكان الشيء الوحيد المميز في حياتي,هو وجهي.هل يمكن ان يتصور القراء مأساتي,انا الذي ادين بشهرتي,لصوتي,لم يكن اي صوت مميز,بل كان لي ذلك الوجه المميز.
ولكن ما الذي كان يجذب للعيون,الى وجهي فالكلمة وكما تقول خالتي,كان الحزن هو الذي يجذب الى العيون,كما يجذب حجر المغناطيس اليه الابر من الفولاذ.
كنت حزينا من اللحظة الاولى,او من العام الاول.كأنني كنت احس,وانا لا اعي,انني فقدت امي اولا,ثم فقدت بعدها ابي.
كان خالي رحيما بي,كان بامكانه ان يلقي بي في احد اركان حجرات البيت,ولا يرسل بي الى المدرسه.فلقد كان موظفا بدخل محدود.
ومع ذلك ارسل بي خالي الى المدرسه,ارسل بي الى اهل(الكتاتيب)وفي الكتاب,بدأت اتعلم القراءة والكتابة,وانا طفل في الرابعة من عمري.
هل تصدقون ان الخوف,كان بدء المعرفه بالنسبه لي,فلقد كنت اخاف من (عريف الكتاب),حتى لا ينهال علي بكفه.كما كنت اخاف من شيخ (الكتاب),حتى لا ينهال علي بعصاه.
ذات يوم حاولت ان اهرب لاول مرة في حياتي,اقد ضقت بحياة الكتاب,ضقت بالشيخ وبصبيه الذي يسمونه العريف,واردت ان اهرب,كنت اريد ان امارس طفولتي بكل ما فيها من عبث كما يمارسها كل الاطفال,وللوهلة الاولى خيل الي وانا اسير بمحاذاة الخط الحديدي,انني لن اتوه ابدا,وانني استطيع العودة ثانية الى القرية.ولكن الذي حدث انني وجدت نفسي في قريه ثانيه,في قرية غريبة تماما عني ولا اعرفها.
ولقد بكيت,ماذا يفعل الطفل حينما يضيع غير ان يبكي.لا بد ان ينادي الطفل في حالة الضياع عن امه وينادي على ابية.فرحت انادي عليهما,وهما كانا تحت التراب,هل يوجد افظع من هذة المأساة,ان يقوم الطفل بالنداء على شيء مفقود.
ولقد ظللت ابكي حتى اغمي علي,وصحوت على يد امرأة تحملني,كان الوجه الاول الذي لن انساه طيلة حياتي,رغم انني قد نسيت الاسم.لقد حملتني تلك المرأة الطيبه الى بيتها.وبعد ان اطعمتني والطفل يأكل من يد غير يد امه_سألتني عن القريه التي جئت منها_الزقازيق_ وكان اسم البلدة هو اول الخيط الذي امسكت به السيدة لتعود بي الى بيتي.
كان خالي مدفوعا بحب خالتي لي,يطوف الشوارع ويستأجر المنادين,لكي ينادوا على طفل ضائع..وارجعتني السيدة الطيبى الى الزقازيق..عرفت حينما كبرت ان المكافأة التي تطلبها هي شيء واحد,ان لا اعود الى الكتاب,ان لا اعود الى عكاز الشيخ,ولا الى يد العريف في كتاب الشيخ وهكذا كان.
لم اعد اذهب الى الكتاب,واحضر لي خالي مدرسا خاصا ليقوم بتعليمي,حتى اكون مؤهلا لدخول المرحله الابتدائية,وهذا ما تم بالفعل,فلقد التحقت بالسنة الابتدائيه وانا لم اتم السادسة من العمر.
خلال تلك المرحلة,في المدرسة الابتدائية,وقع لي حادث,كاد يغير مجرى حياتي كلها.كدت افقد ساقي وانا كنت على استعداد ان افقد اي شيء الا ان افقد ساقي,فأنا اكره ان اعرج وان اسير على عكاز,كنت اكره العكاز تماما..
غير انني سلمت من العجز,نجوت من ذلك الباب الخشبي الذي سقط فوقي..وتحول ذلك الباب من باب يسقط فوقي الى باب يفتح امامي..وهذا ما حدث..
هل يمكن ان استريح الان قليلا..
الى الفصل الثاني اذا..
كان صوت محمد عبد الوهاب هو المغامرة الاولى في حياتي..وبعده بدأت الموسيقى,تقوم بدورتها الدمويه في شراييني.
الفـــصل الثـــاني
كنا نسمع بذلك الاسم:محمد عبد الوهاب,وكان اسما غامضا بالنسبة لنا,وكان لا يعني شيئا محددا ابدا.فحين يلتف رجال البوليس حول خيمة كبيرة قد نصبت في ميدان البلدة,فما الذي يعني هذا.
غير انني فوجئت ومعي كل الاطفال خلف السرداق,بذلك الصوت الرائع ينطلق من خلف جدران السرداق.ولقد كان الصوت هو صوت محمد عبد الوهاب.
لا ادري لماذا كنت ارتعش طول الوقت,وانا اصغي اليه,وهو يغني,كان بالفعل ذلك الصوت الرائع العظيم,الذي يتسلل الى الدم.هكذا كان احساسي بصوت محمد عبد الوهاب,وانا لا ازال في السابعة من عمري.
وتابعت دراستي في المدرسة الابتدائيه,غير ان صوت محمد عبد الوهاب قد سقط علي واثر في مجرى حياتي,تماما كما سقط علي ذلك الباب الخشبي.
في المدرسة الابتدائية,لم اتعلق الا بمدرس واحد,وهو مدرس الموسيقى وكان اسمه محمود حنفي.
لقد اعجبه صوتي وانا طفل فجعلني رئيس فرقه الاناشيد المدرسية.ولم يكتفي باعطائي الدروس الخاصة في المدرسة,بل استأذن ناظر المدرسة,في ان اذهب الى مدرسة الايتام لاحضر دروسه الموسيقيه هناك,وهذا ما كان.
هذا المدرس الكبير,الذي اسمه محمود حنفي,لا يمكن ان انساه طول حياتي,فهو الذي لعب الدور الاول بالنسبة لي,هو الذي قادني,الى ذلك العالم الذي اسمه عالم الصوت وعالم الموسيقى.
كان اخي الاكبر اسماعيل شبانه بمعهد الموسيقى في القاهرة.وكان لاخي الدور الثاني بعد دور مدرسي محمود حنفي,في اغرائي بالذهاب الى ذلك المعهد.
وامام اصراري وافق خالي,على سفري مع شقيقي اسماعيل شبانه الى القاهرة.وحملت اوراقي وذهبت الى المعهد,ولكنهم للاسف الشديد رفضوا طلبي,لقد كنت دون الثانيه عشرة من العمر.وكان علي ان اقضي عاما كاملا,خارج اسوار جدران المعهد,لكي يتم قبولي في العام التالي.وهذا ما حدث.
لقد بدأت دورة جديدة من دورات الدم في حياتي.لقد بدأت الموسيقى تقوم بدورتها...بدأت تمتزج بكرات الدم الابيض والحمراء,بدأت تجري في شراييني,صدقوني لا يوجد اعظم من موسيقى الدم الصامتة.
كانت حياة رائعه في المعهد,فلا يوجد ما هو اجمل من ان يكون الانسان في المكان الذي يحبه.
انتهت دراستي بالمعهد,وكان علي ان اواصل طريق حياتي.كانت الحكومه,قد فتحت حديثا معهدا اخر للدراسات الموسيقيه العليا,وكان اسم المعهد,هو معهد الموسيقى المسرحية.هناك في المعهد العالي,لفتت نظري تلك الالة الموسيقيه النادرة,وكانت الة تسمى (الابوا).
كانت تلك الالة بالنسبة لي,بمثابة الجمع,بين دراسة الصوت من جانب,ودراسه الموسيقى من الجانب الاخر.
وتخرجت من معهد الموسيقى العالي عام 1949.وهنا لا بد وان اتوقف قليلا.
لا بد وان اقول,ان الفنان لا يصعد الى القمة ابدا في خط مستقيم,انه يصعد ويسقط,ويسير في دروب غير سالكة ابدا.
والشهرة بالنسبة الى الفنان ايضا,ليست ابدا ذلك النبات الشيطاني,ذلك النبات الطفيلي الذي ينمو ويترعرع ويزهر فجأة.ان الشهرة بطيئة النمو تماما,وتحتاج الى شلال من العرق والدم.هذا ما اريد ان اقوله,بعد ان تخرجت من معهد الموسيقى العالي عام 1949وبدأت اضع قدمي على اول الطريق الى اليكرفون.
في معهد الموسيقى تعرفت لاول مرة على كمال الطويل,وشأنه شأن كل الموسيقيين الكبار,لم يكن يتصور انه سيكون ذات يوم,احد الملحنيين المرموقين في حياتنا الموسيقية.
ان اسم كمال الطويل يرتبط في حياتي,بحادث معين,فلقد اقترح كمال الطويل,ان نمضي جانبا من الصيف في الاسكندريه ووافقت على البحر.كان البحر بالنسبة لي هو الاغراء الاكبر الذي لا استطيع صده ابدا.
كنت املك اربعين جنيها,ادخرتها على مر خمس سنوات,وكان هو يملك ستين جنيها.وهكذا سافرنا الى الاسكندرية وفي جيوبنا مائة جنية بالتمام والكمال.
وبالطبع فلم تكفنا المائة جنية,لمدة اسبوعين,بعدها صحونا بجيوب فارغه,ولكن مهارة كمال الطويل في التنقل بين البقالين,جعلنا نواجه الجوع.
حينما عدت الى القاهرة,بعد ذلك الصيف الساخن,او بعد ذلك الصيف المفلس, كان لا بد ان اعمل شيئا,اضافيا الى جانب عملي,كمدرس موسيقي للبنات.فأشتغلت عازفا في فرقه الاذاعة.
في تلك المرحلة,بدأت دراسة جديدة,لم تكن دراسه في الكتب الموسيقيه,ولا من النوتات الموسيقيه,كانت دراسة على الطبيعه.كنت ادرس اصوات الموسيقيين,الذين يغنون اماما مكرفون الاذاعة,كنت ادرس اسلوب الايداء,وامكانيه الحبال الصوتيه.وكان رفيق الطريق هو كمال الطويل,في هذة الدراسه المضنية.
فجأة....وعلى غير انتظار,عين كمال الطويل مراقبا موسيقيا في الاذاعة,وانطلقت لزيارته بعد غياب طويل,وحينما ابصرني كمال الطويل صاح:
_اين اختفيت,كل ذلك الوقت...اكتب طلبا في الحال,لتعمل مطربا في الاذاعة.
وهكذا بدأت عملي كمطرب رسمي,في اذاعة رسمية,ومن هذة الزاويه بدأت متاعبي,لقد اعطوني كلاما رديئا لاغنية.وبالطبع كان علي ان ارفض تلك الاغنيه الرديئة.وبدأت متاعبي وبدأت اقف على قدمي,فوق ارض الاغنية,كان علي ان اغني الكلمات التي احبها,لا الكلمات التي تفرض علي فرضا.
كنت احب الشعر,وفي قريتنا (الحلوات),التقيت بقريب لي وكان اسمه صلاح عبد الصبور_وهو الشاعر المعروف الان,فكتب لي اول اغنية باللغة الفصحى,وكان اسمها لقاء.فهرعت بها الى كمال الطويل,وطلبت منه ان يقوم بتلحينها.وكانت الاغنية الاولى في حيـــاتي.
الفصل الثالث
في حياتي كفنان,امتدت بعض الايدي لتسندني,كانت يد كمال الطويل اولا,ثم يد محمد حسن الشجاعي ثانيا...ثم يد محمد عبد الوهاب.
كما لعب في حياتي,دوره البارز,كمال الطويل,فلقد جاء الموسيقار محمد حسن الشجاعي ليلعب دوره ايضا.وكان الدور الذي لعبه الشجاعي في حياتي,هو توجيهه لي,بدراسة الآلات الموسيقيه.لقد قال لي:
_ان دراسة الالات تصقل مخارج الصوت,وتنمي حصيله المطرب,وتنمي طاقته.وتجعله اكثر قدرة على معرفه امكانات صوته ومن اجل هذا وفي هذا الاتجاه التحقت بمعهد الآلات الموسيقيه.وتخصصت في الة (الابوا) ولم يكن يعزفها في مصر غير ثلاثه العازفين,كنت انا احدهم.
هكذا بدأت علاقتي,بالآلات الموسيقيه,بدأت من خلال آله (الابوا).
بعد ذلك كان علي ان اغني ولم يكن امامي غير الصديق القديم كمال الطويل.ولكن قاتل الله الكسل,فلقد كان كمال الطويل كسولا,ولم يكن يمكنني الانتظار طويلا,ومن اجل هذا لجأت الى ملحنين آخرين.
لقد بدأت ابحث عن الة موسيقيه تلحن لي.وخلال عمليه البحث,عن تلك الالة الموسيقيه,تعرفت على محمد الموجي,وبهذة المعرفه بدأت صفحة جديدة في حياتي.
لقد كان الموجييمثل بالنسبة لي الانطلاقه الجديدة في الموسيقى,لم يكن آلة موسيقيه تقليديه.كان الموجي يكرة الجمود ويكره التحجر في السلم الموسيقي,ومن اجل هذا احببته.ربما لانني انا نفسي كنت ضد الاصوات التقليديه في الغناء,كنت ابحث عن اداء جديد,وعن اسلوب جديد في الغناء,ومن اجل هذا توطدت علاقتي بمحمد الموجي.
في ذلك الوقت كانت هيئة الاذاعة قد شكلت لجنة جديدة للاستماع,واضافت اليها اكبر اسمين في الغناء,اسم ام كلثوم ,واسم محمد عبد الوهاب.
ومن الصدف او الفرص النادرة في الحياة,ان يلفت صوتي انتباه السيدة ام كلثوم,ومحمد عبد الوهاب الذي حين استمع الى تسجيلاتي الغنائيه,طلب من حافظ عبد الوهاب ان يعرفني به. وهكذا ومن خلال حافظ عبد الوهاب تم اول لقاء بيني وبين محمد عبد الوهاب. كانت التوصيه الكبرى بالنسبة لي,ليست بطاقة من احد,ولكن كانت تسجيلاتي الصوتيه,التي استمع الها محمد عبد الوهاب واعجب بها.
لقد ارتجفت قبل ان اواجهه,وحينما صافحته ارتعشت اكثر,كنت احس كأنني امسك بسلك مكهرب في يدي.كان بالنسبة لي فارس الحلم,وفارس الامل معا.كنت اقف لاول مرة في حياتي امام النموذج,امام البطل بالنسبة لي.
في مكتب محمد عبد الوهاب كانت المفاجأة الكبرى بالنسبة لي ,حين قال محمد عبد الوهاب:
_اريد ان استمع لصوتك...
كانت فرصة العمر بالنسبة لي,فأنطلقت اغني,جبل التوباد,وكانت بصوت محمد عبد الوهاب,ومن الحانه الرائعة.
كنت خائفا وانا اغني,كان العرق يتصبب من جبيني,كنت اخاف من فشل التجربه,امام ذلك الموسيقار الكبير.
وترقرقت دمعة في عيني واذا بدمعة اخرى تترقرق في عينيه,عندها عرفت ان التجربه قد نجحت,وانني قد فزت بصوت محمد عبد الوهاب الى جانبي.
وترقبت بلهفة رأي محمد عبد الوهاب وكانت اللمسة الكهربائيه في حياتي حينما قال:
لقد قلدني عشرات ومئات المطربين..كلهم حاولوا ان يكونوا نسخا مكررة مني..انك الصوت الاول,الذي ارتفع فوق مستوى التقليد,انك تغني محمد عبد الوهاب ولكن بأحساس عبد الحليم حافظ,بأحساسه وانفعاله,وشخصية صوته المستقلة.
وانهى محمد عبد الوهاب كلامه لي قائلا:
_حافظ دائما على صوتك المستقل,وعلى شخصيتك المستقلة,حذار ان تقع في فخ التقليد,عندئذ تكون كالغراب,الذي حاول تقليد العصفور فلم يشفع تقليده, ولا استطاع العودة الى مشيته الاولى.
_((انني في حاجه الى صوتك...))
لقد قال هذا محمد عبد الوهاب.قال هذا بصوته حينئذ,احسست بأن قمرا اخضر يرفرف فوق كتفي.
ومضت ايام,وانا انتظر محمد عبد الوهاب,انتظر ان اغني له...ورغم انني وقعت عقدا لمدة ثلاثه سنوات,الا انني لم اغن لحنا واحدا له.وبدأ القلق يهزني..بدأت ثقتي في نفسي تتزعزع.
وفي وسط هذة الدوامة.جائني المخرج ابراهيم عمارة.وعرض علي ان اقوم ببطولة فيلم من انتاجه واخراجه.وقبلت على الفور ووقعت العقد في لمح البرق.
لم يكن بأمكاني ان ارفض ابدا.وبعد التوقيع فوجئت بالغضب الاكبر لمحمد عبد الوهاب.ولكنني لاول مرة في حياتي واجهت غضبة بصلابه وشجاعة. ووقفت الجماهير الى جانبي.واصبحت فجأة نجم شارع عماد الدين.وبعد فيلم ابراهيم عمارة ,تعاقدت مع المخرج حلمي حليم.فمثلت فيلمين ( ايامنا الحلوة وليالي الحب)ولقد نجح الفيلمان,نجاحا باهرا.ومن هذة الافلام الثلاثة فتحت لي الشاشة الكبيرة ذراعيها.وهكذا احسست بالشمس تشرق بين عيني.شعرت بأن امل الانسان لا يمكن ان يقهر,وان الاصرار على مواصلة السير ,سيكون نتيجته بلوغ الامل..
الفصل الرابع
هنالك فارق بسيط بين قطرات العرق وبين احجار الماس,وعلى الفنان ان يعرف هذا الفارق البسيط والا مات..
كانت المواجهة الاولى هي تلك المواجهة التي تمت بيني وبين متعهد الحفلات المعروف في الاسكندرية,اسمه صديق احمد.لقد طلب مني في اول حفلات لي بالاسكندرية ان اغني لمحمد عبد الوهاب,ولكنن قلت له:
_سأغني لعبد الحليم حافظ.
وفوجىء متعهد الحفلات,فوجىء بمطرب ناشيء يتمرد عليه ,وحاول اقناعي بمختلف الاساليب ولكنني تمسكت بموقفي,عندها ادار ظهره لي وهو يقول:
_اذا فلن تصل ابدا.
ومع ذلك فلقد وصلت.اقصد ان الفنان الذي يقول نعم دائما ولا يقول كلمة لا,لا يمكن ان يصل,فعلى الفنان ان يعرف متى يقول كلمة نعم,ومتى يقول كلمة لا,ولو كلفته هذة الكلمة سنوات طويلة من الجوع والعطش والعذاب.
ولقد كلفتني كلمة (لا)لمتعهد الحفلات,كثيرا,لقد كان الفشل الاول بالنسبة لي,انهم يطلبون مني الاغنيات القديمة,التي تعودت عليها اذانهم على مر السنين.فلماذا لا تتعود اذانهم على الحان جديدة,وعلى اغنيات جديدة.كان لا بد وان ينهض فنان بهذة المسؤولية,ولقد خيل لي,ان هذة المسؤولية هي مسؤوليتي.
وانطلقت الى صديقي عبد الغني السيد,قلت له:لماذا لا تغني لمحمد الموجي.
فاجئني عبد الغني السيد:
_ولكن من هو الموجي..انا لم اسمع به..
وكيف تطلب مني ان اغني لملحن مجهول.ولم ايأس وظللت اطارد الموجي حتى فرضت عليه ان يقابل عبد الغني السيد.وفي لقاء الموجي بعبد الغني السيد,اسمعه الموجي لحن (صافيني مرة).
غير ان عبد الغني السيد,لسوء حظه رفض هذا اللحن,الذي نجح فيما بعد نجاحا جماهيريا كبيرا.
ان على الفنانة ان يحاول الخروج على قانون الموسيقى في بعض مراحل حياته,والا تحول الى آلة موسيقيه مهملة.كان علي انا افاجيء الجمهور بأغنية جديدة ولحن جديد,كان علي ان ازعزع ايمانه بالالحان القديمة.وجائت الفرصة,في اعقاب ثورة 23 يوليو 1952.انني اعترف هنا ان الثورة المصرية لعبت الدور الاول الكبير في حياتي.
وفي احدى حفلات اعياد الثورة غنيت اغنيه (صافيني مرة..)فأذا بالصدمة الكهربائية تصيب الجمهور,واذا به يطلب استعادتها للمرة الثانية.
لقد نجحت اخيرا,ولكن اصعب من النجاح مسؤوليه المحافظة على النجاح.كان علي ان احافظ على الآذان الجديدة للجمهور.
وكان علي ان اواصل التجربة.وان اقتحم عرين الاسد.زعرين الاسد بالنسبة لي هو جمهور الاسكندرية,الجمهور العنيد والمتذوق والشديد الحساسيه.واقتحمت عرين الاسد وغنيت امام جمهور الاسكندرية,كل الاغاني التي رفضها المتعهد .واذا بالجمهور يواجهني بعاصفة من التحية,لم يسبق ان لمستها من قبل.
لقد نجحت اذن,اجل لقد نجحت.الجمهور الذي كان يصفر لي في المرة الاولى اصبح يصفق لي.
لقد بدأت مرحله ذوبان الجليد اذا,بيني وبين اسد الاسكندرية.وهكذا استطعت ان انال ثقه اسدين,اسد القاهرة واسد الاسكندرية.وحين يستولي المطرب,على عرينين,يمكنه ان يطمئن الى مستقبله وهذا ما كان. رغم انه لا يوجد في بلادنا حتى الان شركة تأمين واحدة,تؤمن على صوت الفنان,قد تؤمن على سيارته ولكنها لا تؤمن على صوته.رغم ان حوادث الطرق اكثر بكثير من حوادث (الاصوات)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.