الأحد، 25 أغسطس 2013

حكاوى العندليب كما يرويها طبيبه هشام عيس





فى الجزء الأول من عرضنا لذكريات الدكتور هشام عيسى الطبيب الخاص للفنان عبدالحليم حافظ، التى تصدرها «الشروق» تحت عنوان «حليم وأنا.. ذكريات الطبيب الخاص لعبدالحليم حافظ»، ذكرنا ما قاله عيسى عن حياة حليم وعلاقته بسعاد حسنى وثورة يوليو وأحمد فؤاد نجم ويوسف شاهين ومفيد فوزى ووجدى الحكيم. وفى الحلقة الثانية نعرض للجزء الأكثر تشويقا فى حياة العندليب، وهو الجزء المتضمن علاقاته بأم كلثوم وعبدالوهاب وفريد الأطرش وآخرين.كما ختمنا الحلقة الأولى بالحب عند حليم، نبدأ الحلقة الثانية أيضا بالحب، ولكن الحب هذه المرة سَبب لحليم مزيدا من الاكتئاب واليأس والعزلة، بسبب حكاية سلمى التى قتلها زوجها حين بدأت الغيرة تأكل قلبه.
مع عبدالوهاب
ينتقل د. عيسى إلى التشويق والضحك فى فصوله الآتية، التى بدأها بالفنان العظيم محمد عبدالوهاب. ومن المواقف الطريفة التى حدثت بين حليم وعبدالوهاب، أورد عيسى: «كنا نزور عبدالوهاب بعد عودته من إسبانيا
، حيث أجرى هناك جراحة فى عينه لإزالة العدسة، حيث كان مصابا لمدة طويلة بعتامة فيها (cataract)، علمنا أن العملية قد تمت بنجاح وعاد لعبدالوهاب وضوح الرؤية الذى افتقده زمنا، وفى طريقنا إلى منزله قال لى حليم سوف تلاحظ شيئا ظريفا، فحين نقابل عبدالوهاب سوف ترى أنه يشاهدنى بوضوح لأول مرة وسوف يحمله الفضول أن يتحقق من ملامحى ولكنه لن يفعل ذلك مباشرة حتى لا نكتشف التغيير الرائع، فهو يفعل ذلك دائما خوفا من الحسد. ذهبنا للمقابلة بعد أن تعانق الاثنان جلست أرقب الموقف لم يخيب عبدالوهاب ظن حليم بالغ الذكاء. فأخذ يختلس النظر إليه على فترات متقطعة، وحليم يتظاهر أنه لم يلاحظ ذلك ويستمر فى حديثه وهو يلتفت إلى ناحية أخرى كأنما يداعب عبدالوهاب، وفجأة نهض حليم واقترب من عبدالوهاب حتى كاد يلصق وجهه فى عينه، وقال يا حياتى إحنا واخدين بالنا كويس وأنت شايفنى كويس قوى، طيب تخبى ليه! لن نحسدك ولكن قل لى بصراحة إيه رأيك فى شكلى الآن، هل أنا حلو؟ وانفجر عبدالوهاب ضاحكا وقال أنا عارف إنك خبيث ولكن لم أكن أعرف أن خبثك للدرجة دى، وبعدين أنا عاوز أقول لك إنك خيبت ظنى وكنت أحلى كتير قبل ما أشوفك بوضوح».
مع فريد الأطرش
وتحت عنوان «عواصف الربيع بين حليم وفريد»، يكشف عيسى ملابسات الخلاف الأشهر فى الحياة الفنية بين حليم وفريد. وشرح أن حليم لم يكن راضيا عن استئثار فريد الدائم بحفلة عيد الربيع، حيث واظب على الحضور إلى القاهرة فى هذه المناسبة ليغنى أغنيته المعروفة عن الربيع، وقد أثر ذلك على علاقته بصديق عمره جلال معوض الذى كان أيضا من أقرب الناس إلى فريد وكان يقوم بتقديم حفلة الربيع له. وفى إحدى المقابلات التليفزيونية سألت المذيعة حليم عن صحة وجود خلاف بينه وبين فريد، فرد قائلا: هذا غير صحيح فنحن لا ننتمى لنفس الجيل وفريد يكاد يكون فى عمر أبى». كانت تلك هى إحدى المرات القليلة التى خرج فيها حليم عما التزم به من البعد عن المهاترات، كما أشار عيسى.
ومن حسن الحظ أن غالبية الأصدقاء المحيطين بحليم وفريد لم يكونوا راضين عن تباعدهما وخصامهما فتعددت محاولات إصلاح ذات البين بينهما، وكان لفريد دافع قوى فى قبول الصلح. فقد عاش فريد ولديه أمنية يرجو تحقيقها وهى أن يغنى حليم من ألحانه ولو حدث ذلك فلا شك أنه كان يحقق لفريد أفضلية كبيرة فى السباق بينهما على الساحة الفنية، وفضلا عن أن حليم لم يكن يرضى بذلك فإنه كان يحس أن موسيقى فريد بعيدة جدا عن أسلوبه وكانت ألحان كمال والموجى وبليغ ومنير مراد هى الأقرب إلى قلبه ومزاجه.
وذكر د. عيسى أن أنجح المحاولات للجمع بين حليم الذى كان يتهرب من الأطرش كانت تلك التى تمت عن طريق الصديق المشترك جلال معوض بالاتفاق مع عيسى، حيث طلب جلال منه أن يصحب حليم إلى منزله فى أحد الأيام التى تصادف وجود فريد عنده، «حضرنا وتم اللقاء بصورة جيدة، وبعد أن قضينا ساعة فى أحاديث عادية تقدم جلال ممسكا بكل منهما وطلب إليهما أن يتعانقا ويتعاهدا على نسيان الماضى ونبذ أى خلافات حدثت من قبل، وخلال العناق أخذ كل واحد من الحاضرين يدلى بدلوه فى المحاولة، واستجاب الطرفان بسرعة وسرت حرارة اللقاء فى أرجاء المكان وبدأ الجميع فى حديث مرح يتبادلون التعليقات والنكات وتم الصلح، والحق أنه منذ ذلك اليوم لم يحدث أن شهد الإعلام أى مظهر من مظاهر العداء أو حتى الجفاء بينهما ولكن بقى ما فى القلب فى القلب. تحسنت العلاقة ولكنها لم تصل إلى تبادل الزيارة».
مع أم كلثوم
أما الفنانة الكبيرة أم كلثوم فحملت حكايتها مع حليم عنوان «صدام حتى النهاية»، إذ كان يرى حليم أن الله أعطى أم كلثوم فكان سخيا، وأن صوتها معجزة، وأداءها منحة عثرت عليها داخلها ولا فضل لها بعد ذلك. أما أم كلثوم ففضلا عن أنها لم تذكر حليم بخير أبدا فقد كانت تنحو إلى اللمز من بعيد، وعلى سبيل المثال صرحت أكثر من مرة بأن الوحيد الذى يعجبها صوته وغناؤه هو محمد قنديل وأنها لا تستمع لغيره من مطربى هذا الجيل.
بدأت الخصومة حسب عيسى تطفو للعلن عقب إحدى الحفلات الغنائية التى كانت تقام فى أعياد ثورة 23 يوليو، وفى البداية جرت العادة أن تحيى أم كلثوم الحفل بمفردها، ثم اقترح البعض أن يشارك عبدالحليم فى حفل 23 يوليو وتمت الموافقة على هذا الاقتراح. وكالعادة كانت أم كلثوم تؤدى وصلتين ويقوم باقى الفنانين بملء الفراغ بينهما، قبل أن تنهى أم كلثوم الحفلة، ولم يعجب هذا الوضع أم كلثوم وكانت تراه مرهقا لها فطلبت أن تتعاقب الوصلتان ثم يغنى عبدالحليم فى نهاية الحفلة، وعندما وقف حليم بدأ بالكلام قائلا: أنا جعلونى أغنى بعد أم كلثوم وأنا لا أعرف هل هذا تكريم لى أم مقلب ضدى، هكذا قلب حليم المائدة وسجل أن غناءه بعد أم كلثوم قد يكون تكريما له حيث تختتم الحفل بأفضل فقراتها.
استشاطت أم كلثوم غضبا وهى تستمع إليه وحكى لى العازف النابغة أحمد الحفناوى أنها كلمته قائلة: أرأيت ماذا يقول هذا الولد كيف أقدم على هذه الجرأة؟!
وفى ختام فصله عن أم كلثوم، أشار د. عيسى إلى نقطة أخرى لتأكيداته حول صداقة حليم بزملائه، كما سلفنا فى الحلقة الأولى، ففى «إحدى حفلات الرئيس السادات اتفق أحمد رجب والمرحوم موسى صبرى وحليم وبليغ أن ينتظروا نهاية الحفل ليناشدوا الرئيس فى العفو عن مصطفى أمين الذى كان مازال محبوسا على ذمة القضية المعروفة، وحين بدأوا الكلام وجدت السيدة جيهان السادات تهب معهم دون علم مسبق بنيتهم وأخذت تخاطب زوجها بكل الحماسة طالبة منه أن يكون هذا هو هديته لابنته فى ذلك اليوم، وقد لمست بنفسى مدى حنانها ورقتها وهى تطلب معهم الحرية لمصطفى أمين».
أشياء أخرى صغيرة
ولأن ذكريات د. عيسى شفيفة مهمتها الكشف عن ما وراء الأحداث سواء بوعى أو بدون، يحكى د. عيسى حكايات صغيرة ومتشعبة عن حياته وآخرين لها دلالات حول العندليب آخر فراعنة الغناء كما أُطلق عليه، منهم كمال الطويل الذى أصيب بعد هزيمة 1967 بطعنة دامية وسببت له إحباطا شديدا وأخذ ينظر للماضى بألم، وأحس أنه وأمثاله قد شاركوا فى السلبيات التى أدت إلى الهزيمة. وبعد انتصار 1973 عرض عليه حليم أن يلحن أغنية ألفها محمد حمزة وكانت تحية موجهة للرئيس السادات بمناسبة العبور وهى أغنية «عاش اللى قال الكلمة المناسبة فى الوقت المناسب»، ولكن كمال ما إن قرأ أول القصيدة حتى أعادها لحليم قائلا: لن ألحن بعد ذلك أبدا لمدح شخص مهما كانت عظمته وإذا أردت أغنية ألحنها فلتكن تحية للشعب المصرى.
بعدها بأيام أحضر كمال أغنية جميلة من تأليف سيد حجاب وهى «الباقى هو الشعب»، رفض حليم بدوره أن يغنيها، وكانت حجته أن هذا المؤلف شيوعى وأن الأغنية التى كتبت وقت حدوث الثغرة، فيها تعريض بالجيش وهكذا غنت عفاف راضى هذه الأغنية ثم قام بعد ذلك بتلحين «دولا مين ودولا مين» لأحمد فؤاد، وقد غنتها سعاد حسنى وسجلت بها نجاحا منقطع النظير.
وحول ما يقال طوال الوقت عن علاقة سعاد حسنى بجهاز المخابرات، ذكر عيسى أن حليم كما كرمته الثورة وأعلت من قدره وهى تمارس نجاحاتها فى كل الميادين فى الداخل والخارج، فقد أصابته انحرافات بعض المنتمين إليها بسهام جارحة، فحين شاعت قصة حب حليم وسعاد وتباينت الأخبار عن الزواج المرتقب، هل تم فعلا أم سوف يتم فى المستقبل، تلقى حليم مكالمة تليفونية من رئيس جهاز المخابرات وقتها وهو المرحوم صلاح نصر، وكانت السندريللا قد سيقت قسرا حسب تعبير د. عيسى الذى رفض أن يقول إنها تورطت للعمل مع هذا الجهاز فى أعمال خاصة كانت تتم مع شخصيات عربية بغرض السيطرة عليهم سياسيا. أسر صلاح نصر لحليم أن سعاد متورطة وأنه يأبى عليه أن يتزوج منها؛ لأنه يحبه ويقدره. ولم يعجب هذا الأمر حليم، كما أنه لم يؤثر قيد أنملة على شعوره نحوها وعلى العكس سارع بمكالمة سعاد تليفونيا فأخذ ينصحها بأن تتمرد عليهم، وأن تتوقف عن التعامل معهم مع وعد منه بدعم لها.
محمود عوض
وبتداعى الأحداث كطابع مميز للذكريات كشف د. عيسى أن حليم لم يكن يميل إلى الأفلام الكوميدية، ولكنه على العكس من ذلك بالنسبة للمسرح كان يفضل المسرح الكوميدى ويرتاده فى القاهرة. أما نجمه المفضل فى ذلك فكان صديقه عادل إمام وكان عادل يحضر أحيانا بعد انتهاء المسرحية إلى منزل حليم فينشر المرح فى المكان وكان حليم يقول عنه: إنه ليس فقط أحسن ممثل مسرحى بل أذكى إنسان عرفته على الإطلاق.
وكان حليم يقدر الكاتب الصحفى محمود عوض ويضعه فى مكانة خاصة منذ أن عرفه.. والحق أن حليم قد تمنى أن يكون كتاب محمود الثالث عن أقطاب الفن كتابا عنه شخصيا فقد كتب محمود عن عبدالوهاب وأم كلثوم من قبل ولكن حليم لم يفصح عن رغبته فى بادئ الأمر بصراحة.
وتحت عنوان «وداعا أيها الزمن الجميل»، ختم د. عيسى ذكرياته متسائلا: «هل يدلنى أحد على فنان يستحق أن يتسلمها منه ويحملها إلى الجيل القادم أم أن الشعلة الخالدة توشك على الانطفاء؟».

نشر في الشروق الجديد يوم 01 - 04 - 2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

ساهم بنشر الموقع و لك جزيل الشكر