منذ سقوط الملكية فى 23 يوليو 1952م وحتى وقتنا هذا خرج علينا سيل من المذكرات والكتب التى تحكى عن حياة الملك فاروق آخر ملوك مصر.. كل كتاب يروى حكايات مختلفة عن الكتاب الآخر.. لدرجة أدت إلى البلبلة.. وأصبح الجيل الجديد فى حيرة أمام أسئلة كثيرة.. من يصدق؟ هل الملكية فى مصر كانت بهذا السوء والفساد أم العكس هو الصحيح؟ هل ثورة يوليو 1952م كانت مطلباً شعبياً لتنهى فترة سوداء من تاريخ مصر أم أنها كانت وبالاً على مصر؟.. أم الغرض من ظهور كل هذه الكتب والمذكرات هو "أكل العيش" والشهرة على حساب الحقيقة التاريخية..؟؟!!
لذلك كان الحرص على اللقاء مع الذين عايشوا الأحداث بأنفسهم.. ومنهم الرجل الذى قاد اليخت المحروسة بالملك فاروق فى رحلتهالأخيرة خارج مصر.. إنه جلال بك علوبة أصغر قائد للمحروسة.. وصديق الملك فى كل رحلاته.. وكان والده محمد على علوبة باشا أحد مؤسسى حزب الأحرار الدستوريين، وكان وزيراً للأوقاف المصرية، ثم وزيراً للمعارف، فالأشغال، وأول من عُين سفيراً لمصر فى باكستان بعد انفصالها عن الهند عام 1947 .
وجلال علوبة هو الرجل الوحيد الذى بكى أمامه الملك فاروق.. وهو أيضاً الرجل الوحيد الذى أصر فاروق أن يتولى قيادة اليخت الملكى فى رحلته الأخيرة إلى إيطاليا بعد تنازله عن العرش رسمياً..
وزوجته هى سميرة هانم بنت عبد الرزاق باشا أبو الخير وكيل وزارة المالية فى عهد فاروق والصديقة المقربة للملكة فريدة وزميلتها فى مدرسة "الليسيه وهذا هو آخر حوار أجرى معه قبل وفاته"..
الملك فاروق يفسد ليلة زفافى..!!
يقول جلال علوبة : كان الملك فاروق سيتنازل عن العرش قبل الثورة بعشر سنوات عندما حاصرت الدبابات الإنجليزية قصر عابدين فى 4 فبراير عام 1942 لإجبار الملك على تعيين النحاس باشا رئيس حزب الوفد على رأس الوزارة، فاشترط الملك أن يؤلف النحاس باشا وزارة ائتلافية، ولكن النحاس رفض، فتوجه السفير البريطانى السير مايلز لامبسون إلى القصر الملكى وقال لفاروق فى لهجة آمرة: إما النحاس وإما أن نعزلك عن العرش!! واضطر الملك إلى الموافقة فى نهاية الأمر .
كانت الأوامر قد صدرت لى بتجهيز "المحروسة" حتى إذا تنازل عن العرش أقوم بنقله إلى المكان الذى يختاره.. وكانت هذه هى المرة الأولى التى يستعد فيها رسمياً للتنازل عن العرش!!.. وقد تسبب هذا الموضوع فى إفساد ليلة زفافى والتى كانت فى 5 فبراير 1942م ، وكنت قد أخبرت "السرايا" كلها.. ولكن بالطبع لم يحضر أحد!! .
لم يحج.. لكن دمه خفيف..!!
توطدت العلاقة بينى وبين الملك فاروق حتى أصبحنا أصدقاء، وكان هناك حب متبادل بيننا لأننى لم أنافق أبداً مثل باقى الحاشية، لدرجة أنه كان يأخذ رأيي فى تعيين بعض الوزراء، أنا والدكتور يوسف رشاد الطبيب الخاص بالملك.. وخرجنا سوياً فى رحلات كثيرة جداً باعتبارى قائد اليخت الملكى المحروسة.. ذهبنا إلى قبرص وفرنسا وإيطاليا وزرنا السعودية لأداء العمرة.. وهى العمرة الوحيدة التى قام بها الملك طوال حياته حتى أنه لم يحج!! بالإضافة إلى الرحلات القصيرة فى الشواطئ المصرية .
وبرغم علاقتى القوية بالملك لم أتدخل مطلقاً فى خلافاته العائلية.. وكان مكانه المفضل عندما يتشاجر مع والدته الملكة نازلى أو زوجته الملكة فريدة هو المحروسة.. إلا أنه كان يتميز بخفة الظل والدم الخفيف والنكتة الحاضرة حتى فى أحلك المواقف والظروف!!
أصعب يوم فى حياة فاروق..!!
وعن أصعب وأهم يوم فى حياة الملك فاروق يقول جلال علوبة: يوم 22 يوليو 1952 كنت فى الإسكندرية.. وفوجئت بالملك يحدثنى تليفونياً -على غير عادته- وقال بصوت مضطرب: يبدو أن الجيش قام بعمل حاجة!! جهز نفسك واستعد باليخت.
وبعد ذلك تحدثت إلى شماشرجى الملك محمد حسن باشا الذى قال إن حركة الجيش زوبعة فى فنجان!!
وبدأت المفاوضات بين اللواء محمد نجيب وعلى ماهر من جانب والملك فاروق من الجانب الآخر.. وخلال هذه الأيام أقمت مع الملك فى قصر عابدين من يوم الأربعاء 22 يوليو حتى السبت 26 يوليو.. حتى اتصل بى أنور السادات -وكان ضابطاً صغيراً وقتذاك-تليفونياً وقال لى: إننا نريدك فى مقر القيادة. فقلته له: تعال أنت وخذنى. وبالفعل جاءنى إلى مصلحة الموانى والمنائر حيث كنت بانتظاره.. وذهبنا سوياً إلى محمد نجيب الذى طلب منى أن أرحل بالملك فاروق فى الساعة السادسة فى صباح اليوم التالى الأحد 27 يوليو، وعلمت أن الملك أصر على عدم الرحيل بدونى.. وأعطانى نجيب أمراً كتابياً بالسفر بفاروق وأسرته إلى إيطاليا بشرط أن أعود بالمركب سالمة .
وعدت إلى الملك فى نفس اليوم فى الساعة الخامسة، وكانت حالته النفسية سيئة جداً، وقلت له: استعد للإبحار صباحاً. وطلبت من محمد نجيب قوة حربية لتأمين المحروسة ضد أى هجوم إسرائيلى.. وبعد أن وافق نجيب أن يعطينى القوة الحربية رفض مجلس قيادة الثورة لأن محمد نجيب كان ذو شخصية مهزوزة، أما جمال عبد الناصر فلم يكن قد ظهر فى الصورة بعد، ودوره لم يتضح إلا بعد نجاح الثورة تماما ً.
صباح يوم الرحيل..!!
وفى صباح يوم الرحيل كان فى وداع الملك السفير الأمريكى بالقاهرة جيفرسون كافرى.. وجاء محمد نجيب متأخراً ومعه من رجال الثورة صلاح سالم وحسين الشافعى وصلاح فريد، وقالوا لنا: إحنا آسفين يا جماعة للتأخير.. فقد ضللنا الطريق إلى الباخرة..!!
وأبحرت المحروسة من ميناء الإسكندرية وهى ترفع العلم الملكى لأن مصر لم تكن جمهورية بعد.. كما أن الملك أحمد فؤاد كان على متن اليخت.. ولم نجد فى استقبالنا فى نابولى سوى مندوب من وزارة الخارجية افيطالية وسفير مصر فى إيطاليا.. وكان من المفروض أن تحتفل بنا إيطاليا كما فعلنا مع ملكهم إيمانويل عندما جاء إلى مصر بعد خلعه..!!
الملك يبكى ..!!
وأما عن حالة الملك فاروق النفسية فى تلك اللحظات فيقول جلال بك علوبة: كانت حالته فظيعة.. دائم البكاء.. ولم تكن هذه هى المرة الأولى التى يبكى فيها الملك.. فقد رأيت قبل ذلك يبكى وعندما سألته عن السبب قال: أنا زهقان وحالة البلد متعبة ولا أعرف ماذا أفعل..!!
ولم يكن يبكى أمام أى شخص آخر أبداً.. وفى خلال اليومين أو الثلاثة التى تلت الثورة كان ما يزال يعاند ويرفض تصديق ما حدث.. ويعتقد أن الثورة سيتم القضاء عليها.. لدرجة أنه كان يفكر فى تعيين اللواء محمد نجيب وزيراً للحربية.. ورفض التوقيع على وثيقة التنازل عن العرش.. وكان يؤكد أن رجال الثورة أمسكوا النمر من ذيله..!!
ولكنى قلت له: كفايه كده.. إن الناس لا تريدك..!!
الملك وبناته يأكلون الطعمية..!!
ويستطرد علوبة: لقد غادر الملك فاروق مصر ومعه كل بناته.. فريـال وفوزية وفادية وابنه الصغير أحمد فؤاد وزوجته الجديدة ناريمان.. ولم يأخذ معه سوى حقيبة واحدة واحدة بها بدلة صيفى وقميص وشورت.. أما الأولاد فلم يكن معهم ما يكفيهم من الملابس لدرجة أنهم نسوا تزويد اليخت بالطعام.. فأرسلت أحد الضباط لشراء طعام يكفينا لثلاثة أيام.. وكان الطعام مكوناً من جبنة بيضاء وفول وطعمية وخبز جاف..!!
الملك لم يكن مهرباً..!!
ويؤكد علوبة أن الملك فاروق لم يخرج بأى شئ من مصر.. ولم يسرق الأموال.. ولم يقم بتهريب الذهب أو مجوهرات القصور الملكية كما أشيع عنه.. وكل ما قيل بهذا الصدد كذب وافتراء.. والحقيقة أن رصيد الملك فى الخارج وصل إلى خمسة ملايين جنيهاً.. وحدث فيما بعد أن تعرضت القصور الملكية للنهب والسلب.. فقد كانت اللوريات تأتى ليلاً لتحمل التحف النفيسة والمجوهرات.. إلى أين؟ الله وحده أعلم..!!
أيام الرحلة..!!
أما عن حالة الملك أثناء الرحلة على ظهر "المحروسة" فيقول قائد اليخت الملكى: حبس الملك نفسه فى أول يوم داخل قمرته.. ولم يتحدث مع أحد.. وفى اليوم الثانى كانت نفسيته أفضل.. وأول شئ فعله أنه خرج إلى سطح السفينة وظل يدعو الله أن يحفظ مصر من كل مكروه..!!
وأما الأولاد فكانوا يلهون ويلعبون البنج مع بعضهم البعض .
وتناول طعام الغداء مع طاقم السفينة.. وبعد ذلك جلس حزيناً يفكر فيما حدث له وما هو آتٍ..
وكنت أواسيه دائماً وأقول له: هذه إرادة الله وحكمته .
وطوال الرحلة كان مجلس قيادة الثورة يرسل لى إشارات استعجال حتى أعود.. فقلت لضابط اللاسلكى: أغلق الجهاز لأننى لا أريد أن أسمع أحداً منهم!!
وفى اليوم الثالث كان الملك هادئاً وسلم أمره إلى الله.. وظل يلح علىَّ أن ابقى معه فى إيطاليا.. حتى أنه عرض مليون جنيه لأقبل الحياة بجواره هناك.. ولكنى رفضت لأننى التزمت بكلمة شرف مع محمد نجيب على العودة باليخت سالما ً.
كان أكولاً.. لكنه لم يشرب الخمر..!!
ويؤكد علوبة أن الملك فاروق لم يذق طعم الخمر فى أى يوم من الأيام لأنه كان يؤكد على حرمتها، وإن كان لديه بار فى منزله ليعزم على ضيوفه.. ولكنه كان لا يشرب معهم!!
أما بالنسبة لعلاقاته النسائية فهذا محض افتراء وإشاعات لا أساس لها.. كان يحب أن يحيط نفسه بعدد كبير من النساء إلا أنه لم يقم علاقات معهن..!!
وكان يقبل على الأكل بشراهة ويحب أن تكون مائدته عامرة بأصناف الطعام المتنوعة.. أما عن علاقته بـ"بولى" السكرتير الإيطالى الخاص به فكانت هى السبب فى تصرفاته الطائشة فى أواخر أيامه بمصر.. لأن الملك كان لا يرفض له طلباً.. وكان يقول لى: أنا وبولى مثل الأخوين لأننا نشأنا معاً..!!
فقد كان والد بولى يعمل كهربائياً فى القصر الملكى .
وقد رفض مجلس قيادة الثورة أن يسافر بولى مع فاروق، وتم اعتقاله، ثم أفرج عنه، وافتتح مطعماً شهيراً فى مصر الجديدة حتى مات ودفن فى مصر.
القمار.. وأكثر من ملكة..!!
ويقول علوبة إن من سيئات الملك فاروق أنه لعب القمار فى أواخر أيامه، وذلك لأنه لم يجد من ينصحه.. كما أصابه اليأس بعد انفصاله عن الملكة فريدة.. واضطر للزواج من الملكة ناريمان من أجل إنجاب ولد، ولكى يحبه الشعب، لأنه كان يقول إن ناريمان من عامة الشعب حيث كان والدها موظفاً بالسكة الحديد.. وتزوجها الملك بعد أن أمرها بفسخ خطبتها من زكى هاشم المحامى .
بعد العودة..!!
ويكمل جلال علوبة: بعد العودة إلى مصر التقيت بمحمد نجيب الذى شكرنى وطلب لى قهوة وظل يعزم علىَّ بالمشاريب.. وطلبت منه أن يتكلم بصراحة.. وعلمت أننى أحلت إلى المعاش.. وكنت أصغر لواء فى القطر المصرى حينئذ..
وانقطعت صلتى بفاروق تماماً.. وتم إدراج اسمى ضمن الممنوعين من السفر.. ولم يتم رفع اسمى إلا فى عندما أصبح ممدوح سالم رئيساً للوزراء .
صديقة الملكة..!!
وتقول سميرة هانم عبد الرزاق زوجة جلال بك علوبة وصديقة الملكة السابقة فريدة: كانت الملكة فريدة فى شدة الحزن والتأثر عند نفى فاروق رغم أنها كانت منفصلة عنه.. ورفضت السفر لأى مكان بعد قيام الثورة حتى تم تجريدها من كل أملاكها.. فاضطرت للسفر إلى بيروت بعض الوقت.. ثم توجهت إلى باريس وامتهنت حرفة الرسم حتى تستطيع العيش لأنها لم تكن تملك شيئاً.. وعندما اشتد بها الحنين إلى مصر طلبت من الرئيس الراحل أنور السادات السماح لها بالعودة.. فوافق ومنحها شقة فى منطقة المعادى.. وظلت ترسم وتبيع لوحاتها، وكان هذا مصدر رزقها الوحيد حتى ماتت..!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.