إن قصة الصراع علي السلطة بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر التي اشتعلت خلال شهري فبراير ومارس عام1954 لم تنشأ من فراغ, وإنما كانت لها جذور دفينة أخذت في النمو منذ الاشهر الاولي من الثورة, فلم يكن عبد الناصر برتبته الصغيرة وشخصيته المجهولة من الكثيرين من افراد الجيش والشعب بقادر علي ان يدخل في منافسة متكافئة مع محمد نجيب بشعبيته الضخمة بين الجماهير ومكانته المرموقة داخل مصر وخارجها, فقد أصبح نجيب بعد اقل من شهرين من قيام الثورة يتولي اخطر ثلاثة مناصب في الدولة, وهي: رئاسة مجلس قيادة الثورة, ورئاسة مجلس الوزراء, والقيادة العامة للقوات المسلحة, مما جعل في حوزته سلطات لم يتجمع مثلها لشخص واحد من قبله.
واكتسب محمد نجيب بالإضافة الي المناصب الرسمية التي كان يتولاها شعبية جارفة, فقد تركزت عليه الاضواء باعتباره الرجل الذي قاد الثورة وطرد الملك وأنقذ الشعب المصري من عهد الظلم والطغيان, وأصبح امل البلاد في تحريرها من الاحتلال البريطاني الجاثم علي صدرها منذ سبعين عاما.
وكان عبدالناصر بحكم أنه الصانع الحقيقي للثورة قد أصابته الغيرة وخالجه الشعور بالاستياء من جراء ذلك الوضع, ولهذا بدأ في التخطيط منذ منتصف عام53 لازاحة محمد نجيب عن السلطة بعد أن استنفد أغراضه منه وهو انجاح الثورة وتولي قيادتها وتوطيد دعائمها في المرحلة الأولي الخطيرة من مراحلها بفضل رتبته الكبيرة وتمتعه بثقة الجيش والشعب, مما أكسب الثورة مكانة واحتراما علي المستويين العربي والدولي, وكانت أولي خطوات عبدالناصر لتحقيق غرضه في الحصول علي كل أسباب القوة والنفوذ تمهيدا لانفراده بعد ذلك بالحكم, هو السيطرة علي مقاليد الأمور في القوات المسلحة باعتبارها العامل الحاسم في أي صراع يقع بينه وبين محمد نجيب أو عند رغبته في التخلص من أحد زملائه أعضاء مجلس الثورة في المستقبل, ولذا حرص عبدالناصر قبل إعلان إلغاء الملكية وقيام الجمهورية في مصر في18 يونيو53 وتولي محمد نجيب رئاسة الجمهورية أن ينتزع قيادة القوات المسلحة منه كي يتولاها صديقه الحميم وموضع ثقته الرائد عبدالحكيم عامر الذي أصر علي ترقيته من رائد إلي لواء دفعة واحدة, وبرغم المعارضة العنيفة التي واجهها عبدالناصر من اللواء محمد نجيب وبرغم تذمر بعض أعضاء مجلس الثورة وخاصة عبداللطيف البغدادي لهذه الترقية الشاذة فإن عبدالناصر لجأ إلي كل الطرق والوسائل حتي نجح في أن يولي عبدالحكيم القيادة العامة, وكان أول قرار وقعه محمد نجيب بوصفه رئيسا للجمهورية هو الأمر الجمهوري رقم1 بتعيين عبدالحكيم عامر قائدا عاما للقوات المسلحة مع منحه رتبة اللواء.
وقد حرص عبدالحكيم وضباط مكتبه علي إقصاء باقي أعضاء مجلس الثورة عن أسلحتهم بحجة ترك حرية العمل للقائد العام, كما حرصوا علي أبعاد ضباط الاسلحة عن ممثليهم في مجلس الثورة, كما نجح عبدالناصر بالاشتراك مع عبدالحكيم عامر في تكوين مجموعات وشلل من الأعوان الموالين لهم في مختلف أسلحة الجيش كان بعضهم من الضباط الاحرار من الصف الثاني والبعض الآخر من الانتهازيين والمنافقين الذين فاتهم شرف الاشتراك في الثورة فأرادوا ألا تفوتهم فرصة اجتناء المغانم والمناصب, وقد قامت هذه المجموعات بأخطر الأدوار في أزمتي فبرايرومارس54 اذ قاوموا كل اتجاه يهدف إلي حل مجلس الثورة أو إعادة الدستور والحريات والحياة النيابية إلي البلاد وكانوا علي اتم استعداد لاستخدام السلاح وإغراق مصر في بحر من الدماء في سبيل استبقاء السلطة في أيدي عبدالناصر وعامر وباقي اعضاء المجلس, لا إيمانا منهم بأن ذلك كان فيه مصلحة الوطن ولكن ضمانا لاستمرار بقائهم في مناصبهم الكبيرة, والحفاظ علي امتيازاتهم ومكاسبهم وخشية أن تؤدي إعادة الحريات ورفع الرقابة عن الصحف إلي افتضاح أمرهم وانكشاف سر ما ارتكبوه من جرائم وآثام وتنكيل بالمواطنين, مما كان سيؤدي إلي وقوعهم تحت طائلة القانون وتقديمهم إلي المحاكم لينالوا جزاءهم الرادع.
موجز لأحداث أزمة فبراير54
تفجرت أزمة فبراير54 بالرسالة التي بعث بها اللواء محمد نجيب مع سكرتيره العسكري الرائد اسماعيل فريد إلي مجلس قيادة الثورة يوم الثلاثاء23 فبراير54 وكانت تتضمن استقالته من جميع المناصب التي كان يتولاها وكان وقع هذه الاستقالة علي أعضاء المجلس وقع الصاعقة. هذا ولم يقدم محمد نجيب استقالته الا بعد أن أيقن ان استمراره رئيسا للجمهورية ورئيسا لمجلس الثورة ورئيسا للوزراء أصبح أمرا مستحيلا فقد صبر طويلا علي سلسلة متصلة من التجاهلات وعدم الاحترام له من أعضاء مجلس الثورة, كما كان يعاني من هموم كثيرة كشف الستار عن بعضها في الصفحتين187,186 من مذكراته( كلمتي للتاريخ) وكلها أسباب تتعلق باستغلال النفوذ وسحب أموال الدولة وبعثرتها كمصاريف سرية وصرفها دون حساب وتوزيع بعضها علي الأصدقاء والأنصار مما يفسد ذمم الضباط وضمائرهم. ويمكن تقسيم أزمة فبراير إلي أربع مراحل كما يلي:
* مرحلة الإعلان عن استقالة محمد نجيب: بعد أن عقد مجلس الثورة عدة جلسات حفلت بالعديد من المناقشات والاقتراحات اتخذ المجلس في الساعة الثانية من صباح يوم الخميس25 فبراير قراره بقبول استقالة محمد نجيب وتعيين عبد الناصر رئيسا لمجلس الوزراء ورئيسا لمجلس قيادة الثورة علي أن يبقي منصب رئيس الجمهورية شاغرا لحين عودة الحياة النيابية للبلاد.
* مرحلة ضغط ضباط الفرسان وإعلان قرارات27 فبراير: علي الرغم من أن اليوم التالي لإعلان تنحية محمد نجيب كان يوم جمعة فقد قام النقيبان أحمد المصري وفاروق الأنصاري والملازم اول محمود حجازي من الضباط الأحرار بسلاح الفرسان بدعوة ضباط الفرسان الي اجتماع عام يوم الجمعة26 فبراير, وفي الساعة السادسة مساء تجمع في ميس الالاي الثاني المدرع المعروف باسم الميس الأخضر ما يربو علي مائتي ضابط ولم يحضر الاجتماع خالد محيي الدين عضو مجلس الثورة لفشل الضباط في الاتصال به كما غاب عن الاجتماع في بدايته حسين الشافعي مدير سلاح الفرسان وعضو مجلس الثورة ولكنه حضر اثناء انعقاده وكانت مفاجأة له عندما رأي اجتماعا بمثل هذه الدرجة من الضخامة منعقدا في السلاح الذي يرأسه دون علمه وعندما وصلت انباء اجتماع ضباط الفرسان الي عبد الناصر اثناء وجوده في القيادة العامة بكوبري القبة التي تواجه معسكر سلاح الفرسان مباشرة توجه في شجاعة وبدون تردد الي مقر الاجتماع.
جمال عبدالناصر
وخلال اجتماع عبد الناصر بضباط الفرسان بعد ذهابه اليهم دار الحوار حول موضوعين اساسيين كان اولهما هو التصرفات الشخصية المعيبة لبعض أعضاء مجلس الثورة وكان ثانيهما هو قضية الديمقراطية والإصرار علي عودة محمد نجيب وذكر عبد الناصر للضباط في نهاية الاجتماع انه سيتوجه الي القيادة العامة لعقد اجتماع مجلس الثورة وعرض مطالب ضباط الفرسان عليه وعقد عبد الناصر بالفعل اجتماعا لمجلس الثورة حضره جميع اعضائه بمن فيهم خالد محيي الدين وروي عبد الناصر للمجلس تفاصيل ما دار اثناء اجتماعه بضباط الفرسان. وفي الساعة الثالثة من صباح يوم السبت27 فبراير54 توجه عبد الناصر وبرفقته خالد محيي الدين الي سلاح الفرسان حيث اعلن علي الضباط المجتمعين القرارات التي اتخذها مجلس الثورة وهي اولا ـ حل مجلس قيادة الثورة وعدم عودة اعضائه الي صفوف الجيش, ثانيا ـ اعادة محمد نجيب رئيسا لجمهورية برلمانية. ثالثا ـ تعيين خالد محيي الدين رئيسا لوزارة مدنية علي أن يعيد الحياة النيابية في اقرب وقت ممكن. رابعا استقالة عبد الحكيم عامر القائد العام من منصبه وترك الحرية لخالد محيي الدين لتعيين قائد عام بدلا منه.
وتوجه خالد محيي الدين وبرفقته ثلاثة من الضباط( من رجال عبد الناصر) الي دار محمد نجيب في الزيتون حيث أيقظه من نومه وبلغه بقرارات مجلس الثورة فوافق عليها في الحال.
* مرحلة تراجع مجلس الثورة عن قراراته: لم يلبث الموقف ان انقلب رأسا علي عقب بعد فترة قصيرة فلم يكد بعض ضباط الصف الثاني من الضباط الأحرار وبعض الضباط الآخرين الذين ارتبطت مصالحهم ببقاء مجلس الثورة لما يجنونه من فوائد ومكاسب شخصية يحضرون الي مبني القيادة بكوبري القبة ويعلمون بقرارات المجلس حتي اعلنوا رفضهم الاستجابة لها ولما ادركوا اصرار اعضاء مجلس الثورة علي تنفيذها ثارت ثائرتهم واعلنوا عزمهم علي تدمير سلاح الفرسان واحتجزوا اعضاء مجلس الثورة في غرفة الاجتماعات واضعين حراسة منهم علي بابها لمنعهم من الخروج.
* مرحلة الضغط الشعبي وعودة نجيب: لم يتخيل اعضاء مجلس الثوة ان زمام الموقف سيفلت من ايديهم ثانية بعد ان نجح اعوانهم في حصار ثكنات الفرسان بقواتهم والقيام بمظاهرة الضغط عليهم داخل القيادة العامة حتي ارغموهم علي التراجع عن قراراتهم التي اعلنها واعلان عبد الناصر علي ضباط سلاح الفرسان ولكن الموقف لم يلبث ان افلت زمامه منهم بصورة غير متوقعة فقد اخذت الشوارع وسط العاصمة تموج بحشود هائلة من المواطنين تجمعوا في مظاهرات صاخبة كأن يقود معظمها عناصر من الإخوان المسلمين ـ برغم ان معظم زعمائهم كانوا في السجون والمعتقلات بعد صدور القرار بحل جماعتهم في13 يناير54 ـ وكانت الجماهير تهتف( محمد نجيب أو الثورة).
وفي نفس الوقت عمت المظاهرات شوارع الخرطوم وبعض المدن السودانية وهي تهتف( لا وحدة بلا نجيب) وفضلا عن هذه المظاهرات الشعبية العارمة تأزم الوضع في الجيش مرة أخري اثر اعتقال ضباط من سلاح الفرسان بعد ان طلبوا حضور وفد منهم الي القيادة العامة للتفاهم معهم فإذا بالأمر يصدر باعتقالهم وسرعان ما وجه, لبعض ضباط سلاح الفرسان انذارا بأنه اذا لم يفرج عن زملائهم فإنهم سيقصفون بمدافع دباباتهم مبني القيادة المواجه لثكنات الفرسان ولم يجد صلاح سالم بدا من تبليغ الاذاعة وفوجئ اعضاء مجلس الثورة في منازلهم ببيان تذيعه الإذاعة في الساعة السادسة مساء يوم27 فبراير54 كان نصه: حفاظا علي وحدة الأمة يعلن مجلس قيادة الثورة عودة الرئيس اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيسا للجمهورية وقد وافق سيادته علي ذلك.
موجز لأحداث أزمة مارس54
كانت عودة محمد نجيب بعد يومين فقط من اعلان مجلس الثورة قبول استقالته حادثا مشهودا كان يمكن ان يصبح نقطة تحول لا في تاريخ الثورة فحسب بل في تاريخ مصر عامة فأن عودته بهذه الطريقة كانت تعني أن محمد نجيب لم يعد يتولي قيادة البلاد بإرادة مجلس الثورة كما كان الحال من قبل وإنما بإرادة الشعب المصري وكان في استطاعته لو شاء استغلال انتصاره الساحق للإطاحة بخصومه من اعضاء مجلس الثورة وأولئك الذين يشدون ازرهم داخل الجيش وخارجه ولكن طبيعة محمد نجيب وشخصيته الفريدة في نوعها من حيث الطيبة والتسامح وغفران الإساءة حالت دون اتخاذه اي اجراءات حاسمة للتخلص من مجلس الثورة برغم ما اظهره له هذا المجلس من قبل من مظاهر التجاهل والعداء بصورة سافرة مما اجبره علي تقديم استقالته التي كانت السبب المباشر في نشوب ازمة فبراير.
وعلي الرغم من البيانات والتصريحات التي كانت تملأ اعمدة الصحف بعد انتهاء ازمة فبراير54 والصادرة من محمد نجيب وعبد الناصر وبعض اعضاء مجلس الثورة والتي كانت تتحدث عن توحيد الكلمة ونسيان الماضي وكيف اصبح قادة الثورة قلبا واحدا ويدا واحدة فإن واقع الحال كان يخالف ذلك تماما فإن عبد الناصر الذي اعتقد انه نجح في ازاحة محمد نجيب عند اعلان مجلس الثورة قبول استقالته في25 فبراير54 لم يلبث أن أفجعته الحقيقة المرة وهي أن محمد نجيب بعد احداث ازمة فبراير54 قد عاد اعظم قوة وأشد بأسا من ذي قبل ودانت له زعامة مصر بلا منازع وعلي الرغم من ان عبد الناصر كان يمسك بين يديه بزمام السلطة الفعلية في البلاد بعد ان أسند اليه مجلس الثورة اثر استقالة محمد نجيب رئاسة مجلس الثورة ورئاسة الوزارة فأن هذه السلطة كانت مهددة بالانهيار. أما محمد نجيب الذي أصبح يستقبل في كل مكان استقبال الأبطال واصبح زعيما للشعب بلا جدال فلم يكن من المعقول بعد ان احس بشعبيته الجارفة ان يقنع بمنصبه الشرفي كرئيس للجمهورية البرلمانية بدون سلطات وفي زيارة من محمد نجيب للدكتور عبد الرزاق السنهوري في منزله مساء يوم7 مارس وتصادف وجود سليمان حافظ وعبد الجليل العمري هناك طلب السنهوري من محمد نجيب ان يعمل علي تصفية النفوس وإزالة التوتر بينه وبين مجلس الثورة فأخذ نجيب يشرح للسنهوري ما لقيه قبل الاستقالة من تجن وإحراج وعدوان وروي له ما حدث أثناء تحديد اقامته واعتقاله عقب تقديم استقالته من تعدي بعض صغار الضباط عليه وأخذت الدهشة الدكتور السنهوري لما سمعه وسأل محمد نجيب عن الضمانات التي يبتغيها لاستقرار الأحوال فحددها له باختصار وعقب انصراف محمد نجيب قام السنهوري بالاتصال هاتفيا بعبد الناصر وطلب منه الحضور الي منزله في صباح اليوم التالي حيث سيكون في انتظاره هو وسليمان حافظ وعبد الجليل العمري كي يعرف منهم مطالب محمد نجيب.
واستمع عبد الناصر وبرفقته جمال سالم في صباح اليوم التالي وهما في منزل السنهوري الي مطالب محمد نجيب ووعد عبد الناصر السنهوري بأنه سيعود اليه بالرد في الساعة الخامسة من نفس اليوم وخلال اجتماع عبد الناصر بمجلس الثورة لمناقشة مطالب محمد اتصل به سليمان حافظ هاتفيا لإبلاغه بمطالب جديدة أخري لمحمد نجيب وبدا بوضوح لمجلس الثورة أن محمد نجيب انتهز الفرصة لحشد مزيد من السلطات لشخصه وزادت هذه المطالب المتلاحقة بطبيعة الحال من توتر الوضع في مجلس الثورة وبدأت تنمو بذرة التي راجع عن قرارات5 مارس.
* كشف البغدادي عن سر خطير في الصفحة146 من مذكراته الجزء الأول ففي زيارة قام بها البغدادي وكمال حسين وحسن ابراهيم يوم21 مارس لمنزل عبد الناصر بسبب مرضه أبلغهم ان الانفجارات الستة التي حدثت في اليوم السابق في محطة سكة حديد مصر وجامعة القاهرة ومحل جروبي والتي روعت القاهرة انما هي من تدبيره لأنه كان يرغب في اثارة البلبلة في نفوس الناس ويجعلهم يشعرون بعدم الأمن والطمأنينة ويشعرون بأنهم في حاجة إلي من يحميهم.
عقب اجتماع المؤتمر المشترك من مجلسي الثورة والوزراء برياسة اللواء محمد نجيب يومي16 و20 مارس54 دارت مناقشات عديدة انتهت بصدور قرارات خطيرة ولكن لم تبذل أية محاولات جدية لتنفيذ أي بند منها مما كان يدل علي عدم صدق نوايا مجلس الثورة في إقامة الحياة الديمقراطية السليمة في مصر برغم أنه المبدأ السادس من مبادئ ثورة23 يوليو.
في اجتماع مجلس الثورة يوم25 مارس54 برئاسة اللواء محمد نجيب تقدم عبد الناصر والبغدادي باقتراحين كانا علي طرفي نقيض ففي حين كان اقتراح عبد الناصر بمثابة تصفية تامة للثورة اذ كان يتضمن حل مجلس الثورة وعودة الأحزاب وتسليم البلاد لممثلي الأمة الشرعيين وكان واضحا ان بنوده كانت تتضمن التطرف المتعمد والمغالاة المقصودة للإيحاء بأن الثورة سوف تنتهي وان نظام ا الحكم السابق علي الثورة سيعود بكل مفاسده وشروره بينما كان اقتراح البغدادي علي العكس اذ كان يعني الغاء قرارات5 مارس والنكوص عن طريق الديمقراطية واستخدام الشدة والعنف ضد كل من تسول له نفسه الوقوف في طريق الثورة وعند التصويت فاز اقتراح عبد الناصر بالأغلبية اذ حصل علي ثمانية اصوات ضد اربعة اصوات وكان الهدف الحقيقي من إقرار اقتراح عبد الناصر هو تحريض الجيش واثارته علي اعتبار ان الهيئات والطوائف المدنية المعادية للثورة تريد تصفية الثورة وإعادة الجيش الي ثكناته مما كان يعني حرمان العديد من الضباط من امتيازاتهم وتعريض بعضهم للمساءلة والعقاب جزاء علي ما اقترفوه من خطايا ومخالفات في عهد الثورة وبالإضافة الي ذلك تحريض الطبقات العاملة واستفزازها بالإيحاء لهم بأن تنفيذ قرارات25 مارس يعني الغاء الثورة وعودة نظام الحكم السابق مما يهدد هذه الطبقات بزوال قوانين العمل والضمانات التي اوجدتها الثورة للحفاظ علي حقوق العمال.
* وجهت القيادة العامة للقوات المسلحة اسلحة الجيش وتشكيلاته لعقد اجتماعات عامة لضباطها واصدار القرارات بتأييد بقاء مجلس الثورة والمطالبة بإلغاء قرارات25 مارس فورا ثم يتم إبلاغ هذه القرارات للقائد العام وهو بدوره يقوم بإبلاغها إلي محمد نجيب.
* في يوم28 مارس بدأت خيوط التدبير تتضح فقد شهدت مصر اضخم حركة اعتصام واضراب لم تشهدها منذ ثورة1919 وذلك بتوجيه من هيئة التحرير وأصيبت حركة المواصلات في القاهرة منذ الصباح بالشلل التام نتيجة القرارات التي اتخذها اتحاد نقابات عمال النقل المشترك برياسة صاوي احمد صاوي الذي شاركهم فيه عدد كبير من النقابات العمالية الاخري وعاشت القاهرة48 ساعة بدون مواصلات, وقد اعترف عبد الناصر لخالد محيي الدين كما ورد في الصفحة350 من كتابه( الآن اتكلم) عن مسئوليته في تدبير احداث ازمة مارس كما يلي: وقال عبد الناصر بصراحة انه رتب احداث ازمة مارس وتحديدا اضراب عمال النقل وما لحق به من اضرابات ومظاهرات عمالية ان ترتيب هذه الأحداث كلفه اربعة آلاف جنيه وفي منتصف الساعة السابعة مساء الاثنين29 مارس عقد الرائد صلاح سالم وزير الإرشاد القومي مؤتمرا صحفيا بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة اعلن خلاله ان مجلس الثورة قرر حمل المسئولية كاملة علي عاتقه واتخذ القرارات التالية:
اولا: ـ إرجاء تنفيذ القرارات التي صدرت يوم25 مارس حتي نهاية فترة الانتقال.
ثانيا: ـ يشكل فورا مجلس استشاري يراعي فيه تمثيل الطوائف والهيئات والمناطق المختلفة ويحدد تكوينه واختصاصه بقانون.
وفي مساء يوم السبت17 أبريل عقد مجلس الثورة اجتماعا برياسة عبد الناصر واتفق رأي المجلس خلال هذا الاجتماع علي ان يكتفي اللواء محمد نجيب برياسة الجمهورية فقط وان يتولي عبد الناصر رياسة الوزارة بدلا منه. وكانت تنحية محمد نجيب من رئاسة الوزارة بمثابة تنحيته عن السلطة تماما وانتهت في الواقع الرحلة الأخيرة من مراحل الصراع علي السلطة بينه وبين عبد الناصر ففي الوقت الذي تجمعت فيه كل خيوط السلطة في يد عبد الناصر قبع محمد نجيب ساكنا في مكتبه بقصر عابدين دون أية سلطة او نفوذ انتظارا لمصيره المحتوم. وفي14 نوفمبر54 أصدر مجلس الثورة قرارا بإعفاء محمد نجيب من منصب رئيس الجمهورية علي أن يتولي مجلس الوزراء سلطات رئيس الجمهورية كما صدر قرار بتحديد إقامة محمد نجيب خارج القاهرة وحرمانه من حقوقه السياسية لمدة عشر سنوات وظل محمد نجيب محدد الإقامة في استراحة السيدة زينب الوكيل بالمرج لمدة18 سنة.
الأهرام 25.7.1999
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.