لم يكن محمد التابعي أمير الصحافة كاتباً صحفياً تخصص في الكتابة عن السياسة وقصور الملوك والحكام قط.. كان التابعي منذ بدايته وحتي نهايته عاشقاً للكتابة الفنية، وعلي علاقة وثيقة بالنجوم والمشاهير في عالم الفن.
عرف التابعي أم كلثوم، وكانت بينهما قصة حب مجهولة قصيرة، وعرف أسمهان، وكانت بينهما أيضاً قصة حب طويلة.. لا أعتقد أنها انتهت بالنهاية المأساوية الحزينة، بمصرع أسمهان إثر سقوط سيارتها في ترعة بالمنصورة وهي في طريقها إلي مصيف رأس البر.
وكان التابعي أمير الصحافة يعرف العندليب الأسمر عبدالحليم حافظ وكتب عنه كثيراً، وكان يحب عبدالحليم وكان العندليب يحبه ويحترم قلمه، لكن في عام 1963 اختلف الاثنان حول بعض مقالات التابعي عن عبدالحليم حافظ، وكان سبب الخلاف اعتقاد التابعي أن عمر الشريف كان وراء إجهاد عبدالحليم وزيادة حالته المرضية.
كان عبدالحليم حافظ قد بدأ يشكو من آلام المرض مع بداية الستينيات، وسافر أكثر من مرة للعلاج فيلندن، وفاجأ التابعي قراءه ذات يوم عندما كشف حقيقة مرض عبدالحليم حافظ، وذلك بنشر رسالة شخصية بعث بها إليه عبدالحليم من مستشفي سان جيمس في لندن.
وقال عبدالحليم حافظ في رسالة للتابعي من لندن: إن كل ما جاء في تقرير الأطباء علي هذا أنني شديد الحساسية، وهذا هو بيت الداء، فأنا فعلاً أعيش بإحساسي، وأنا أغني، وأنا أتكلم، وأنا أفعل أي شيء.. تراني أحسه بكل ما في، وأحياناً أحاول ألا أحس، فأعرف بإحساسي أنني أحاول ألا أحس.
وأضاف عبدالحليم في رسالته إلي أمير الصحافة: وعلتي أن إحساسي دائماً حزين، وقد يقول البعض ما لشدة الحساسية التي قررها الأطباء وما لهذا الإحساس؟ وكما قلت أنت إن أي شخص يحس يعيش علي أعصابه، وأعصاب الإنسان تتحكم فيه وفي صحته كلها، وأنا أعتقد أن كل شخص حساس، لابد أن يعاني من هذه »الحساسية الطيبة«!
ولم يكن ذلك هو الخطاب الأول الذي يرسله عبدالحليم حافظ إلي التابعي من لندن.. كان التابعي قبلها قد كتب مقالاً عنوانه »الدجاجة التي تبيض ذهباً« اتهم فيه أسرة عبدالحليم حافظ أنها المسئولة عن إرهاقه بالعمل، فأرسل إليه عبدالحليم رسالة ينفي فيها هذه التهمة عن أسرته.
وقال للتابعي في هذه الرسالة عن أسرته: علي العكس أنهم دائماً يحدثونني عن راحتي، وأنني لابد لي من الراحة، لكن الذي يعمل هو أنا، والذي يسهر هو أنا.. لماذا؟ لست أدري.. إنه ليس المال علي كل حال.. لأنني لا أملك شيئاً والحمدلله، وأنا لا أفكر في المال أو في جمعه.
ومن جديد عاد محمد التابعي ليكتب عن عبدالحليم حافظ عندما سافر مرة أخري للعلاج في لندن، وسمع التابعي أن عبدالحليم حافظ يواجه أخطر أزمة مرضية في حياته، واتهم التابعي عمر الشريف وكان موجوداً أيامها في عاصمة الضباب، بأنه وراء تدهور صحة عبدالحليم، وأنه يأخذه من المستشفي ليسهر معه الليالي الطوال.. غير مهتم بأن العندليب مريض وفي حالة صعبة.
وبعد أن كتب التابعي ذلك، فوجئ برسالة عاجلة بعث بها إليه عبدالحليم من مستشفي سان جيمس.. ينفي فيها هذا الاتهام عن صديقه عمر الشريف ويدافع عنه بشدة.
وفي هذه الرسالة قال عبدالحليم حافظ للتابعي:
أستاذنا الكبير..
من فراشي بمستشفي سان جيمس بلندن.. أبعث لك تحياتي واحترامي وحبي.. راجياً من الله أن تكون متمتعاً بكامل الصحة والعافية.
أستاذنا الكبير.. أكتب لك هذا الخطاب بعد أن قرأت مقالك الذي كتبته عني في »آخر ساعة«.. إنه إنذار كله رقة وحب، ولكن هناك شيء هام نزع قلبي، هذا الشيء هو ما جاء في مقالك عن الصديق عمر الشريف.
أستاذنا الكبير.. أنت رجل عادل وكل ما تكتبه حقيقة، وأنا أحب أن أبين لك حقيقة هامة هي أن عمر الشريف لم يسهرني.. بالعكس أنا الذي أجبرته علي السهر معي في تلك الليلة، وقد حاول مراراً أن يذهب بي إلي المنزل، ولكني كنت أرفض!
وأنا لا أكتب هذا دفاعاً عن عمر.. لكنها وأقسم لك الحقيقة.. وقد تسأل لماذا فعلت ذلك؟ لقد كنت في ضيق نفسي فظيع.. لا أدري له سبباً.. من أول النهار وأنا في قلق غريب.. ذهبت إلي المسرح، وذهبت للمشي حتي أحاول أن أهرب من هذا الضيق.. ولكنه ظل كما هو يعبث في نفسي ويهز أفكاري.
واتصلت بأخي عمر الشريف عن طريق التليفون، وهو صديق عزيز عليّ، وأخ ورجل، ومصري مائة في المائة، وذهبت إليه وجلست معه.. نتناقش أحياناً، ونلعب الورق أحياناً، وكان عمر كأي صديق يحس بضيقي وقلقي.
وكان يقول لي: يا حليم.. كل شيء إن شاء الله حيبقي كويس.. خليك مع الله ولا تخف ولا تقلق.. بس حاول تحافظ علي نفسك وعلي صحتك.. قوم بقي عشان تنام وتستريح!
وكنا نتكلم عن الفن وعن مصر.. إنه مصري يا أستاذنا.. يحب مصر.. وأصدقاؤه كلهم من مصر..لم يحاول أن يتنكر لأحد منهم، وعمر سوف يحضر إلي القاهرة.. إنه في الطريق إليها فعلاً.. إنها حرب عليه غرضها التقليل من قيمته الفنية التي يكنها له كل العاملين في الحقل السينمائي العالمي.. إنه مصري يعمل باسمه ولم يغيره.. يعمل من أجل أن يثبت للعالم أن الفن ليس قاصراً علي أوروبا وأمريكا فقط، وقد أثبت ذلك فعلاً.
أستاذي الكبير..
هذا هو عمر الشريف.. وهذا ما دار بيني وبينه في تلك الليلة.. لقد أجبرته علي السهر.. رغم أن عنده تعليمات بالنوم الساعة 12 علي الأكثر.. ولكنه كان يحس بقلقي وضيقي.. نزلت من عنده حوالي الساعة الثانية صباحاً.. ورجعت أسير علي قدمي في الطرقات.. أحاول أن أنسي هذا القلق.. سرت.. وسرت.. وأخيراً ذهبت إلي النوم.. فلم أستطع.. أخذت منوماً وأنا أكرهه!
ولم أنم.. قلق.. قلق.. لا أدري له سبباً.. غير أنه يعبث بكياني.. وظللت إلي الصباح.. واستيقظ من معي.. وقلت لهم أن يتصلوا بالدكتور »تانر« فلم نجده، وأخذت حقنة ونمت بعض الشيء.
ويمضي عبدالحليم حافظ قائلاً للتابعي في رسالته:
ثم جاء الأستاذ محمد عبدالوهاب وأيقظني، وتناولنا معاً الغداء، وبعدها جاء عمر الشريف.
وقال لي: أنا جيت للاطمئنان عليك.. لأنك امبارح كنت مش عاجبني أبداً.
وانصرف الأستاذ محمد عبدالوهاب وعمر الشريف، وأحسست بالنزيف، ونقلت إلي المستشفي، وتم نقل دم لي، وبعدها توقف النزيف، وبكل جهد مع الأطباء هنا.. حاولت أن أعرف سبب هذا النزيف، وعرفت أن الحقن التي يعالجونني بها قد تسبب لي هذا أحياناً، وأنهم ما كان يجب عليهم أن يخرجوني من المستشفي خصوصاً أنني أخذت كمية من الدواء في المدة التي سبقت النزيف.
أستاذي..
إن غلطتي فعلاً أنني سمعت كلامهم، وخرجت من المستشفي لأنني ساعة خروجي من المستشفي لم أكن طبيعياً.. كنت غير متمالك لنفسي، فكان يجب عليّ أن أبقي وأنا أدري الناس بنفسي.
أستاذي..
أطلت عليك، ولكني أعرف أنك دائماً تكتب الحق، ولقد أردت أن تعرف الحقيقة مني، وكل رجائي أن تنشر للناس هذه الحقيقة.. فلقد ظلم الناس عمر الشريف، ولا أريد أن تظلمه أنت أيضاً.
أبقاك الله وأدامك لي ولبلدك الذي ترفع من شأنه بقلمك..
بجواري الصديق الحبيب كمال الطويل.. وقد عرف الحقيقة.. وهو يهديك السلام والحب.. وأنا أيضاً.
التوقيع: عبدالحليم حافظ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.