الاثنين، 16 سبتمبر 2013

شىء من سر أم كلثوم

ولدت أم كلثوم عام 1904 فى قرية طماى الزهايرة - مركز السنبلاوين مديرية الدقهلية، ورحلت فى الأسبوع الأول من فبراير 1975 عن عمر يناهز السبعين عاما، ورغم أن الناقد الموسيقى الراحل كمال النجمى فى كتابه «محمد عبد الوهاب مطرب المائة عام» يقول : «إن عام 1904 المثبت فى شهادة ميلاد أم كلثوم لم يكن تاريخ ميلادها الحقيقى، بل كان عام بدء تسجيل المواليد والأطفال الصغار فى مديرية الدقهلية، وكانوا حتى من وصلوا سن السادسة منهم يثبت ميلاده فى هذه السنة» .


ولكن الثابت أن مائة عام قد تزيد قليلا قد مضت على ميلاد أم كلثوم، وقد بدأت أم كلثوم رحلتها فى ريف الدقهلية رحلة الصعود إلى القمة، فى تلك اللحظة التى أدركت فيها نقطة البداية .. بداية انطلاق كوكب فيقول عبد النور خليل :


تشبثت أم كلثوم بالذهاب إلى كتاب القرية وحفظ القرآن، وتلقى مبادئ القراءة والكتابة إلى درجة الصيام عن الطعام حتى يأذن لها والدها الشيخ إبراهيم البلتاجى إمام جامع القرية ومؤذنها ومنشدها الصييت أن تذهب، فتتعلم فى الكُتاب، وكأنما كانت تدرك ببصيرة واعية أن تلك هى البداية.


ثم يقول : كانت قريتى لا تبعد عن قريتها مسقط رأسها أكثر من عشرة كيلو مترات، وكانت تلك هى البداية، وصورة الصبية المعجزة التى ملأت أفراح الناحية ومناسباتها كليالى الموالد وحفلات الزواج والطهور شدواً وترنماً ماتزال تهوم فى رءوس العجائز من أهلنا، وكل منهم يزهو ويفخر بأنه سمعها، وحضر المناسبة التى غنت فيها.. هكذا كانت بداية انتمائى إلى «دولة أم كلثوم».


ويحتفظ مصطفى أمين بصورة قلمية لكوكب الشرق فى هذه المرحلة عندما انتقلت من قريتها طماى الزهايرة فيقول :


كنت تلميذا فى المدارس الابتدائية، وكانت شابة صغيرة تغنى فى صالة سانتى بحديقة الأزبكية .


كانت ترتدى شبه عباءة، وعلى رأسها العقال، ورأيتها واقفة بين القانونجى القديم العقاد .. وبين الشاعر أحمد رامى أستاذى فى الترجمة بمدرسة المنيرة الابتدائية وكانت فتاة صغيرة فاتنة، تغنى القصائد والتواشيح، ولكنها كانت تستطيع دائما أن تسيطر على الموجودين فى الصالة فيتوقف الكلام، وينتبه السكارى، وتسكت المشاجرات والخناقات، وعرفتها بعد ذلك كصحفى يكتب عن نجمة مشهورة ثم عرفتها كإنسانة وامرأة عظيمة، وفى كل هذه السنين شعرت أن هذه المرأة شخصية غير عادية، إنها مثل النيل والأهرام إنها المرأة الوحيدة فى العالم التى مكثت أكثر من ثلاثين عاما، وهى سيدة الغناء فى منطقة واسعة تمتد من المحيط الهندى إلى المحيط الأطلسى».


* هذه الإحصائية!!


أما فكرى أباظة فيثير أسئلة أخرى عن لغز أم كلثوم فيقول :


أسائل نفسى دائماً أهى فقط ملكة الطرب ؟ أم ملكة «خفة الروح» ؟ أم ملكة الذوق السليم فى زيها؟ أم ملكة البر والإحسان مما يعرفه أحد من عشاقها والمعجبين بها ؟


فى حفلة كبرى أقامتها لجنة الفنون العليا برئاسة الأستاذ المرحوم محمد محمود خليل فى نادى الموسيقى تكريما لمعجزاتها الفنية قلت : إن هذا العصر سيسمى فى عالم الشعر وعالم الطرب عصر أحمد شوقى، وعصر أم كلثوم .. نعم أعرفها منذ أن لم تكن معروفة إلى أن عرفها الملايين فى الشرق العربى كله، ومحطات الإذاعة فى جميع أنحاء العالم القديم فى أوروبا وآسيا وإفريقية والأوقيانوس والعالم الجديد فى أمريكا الشمالية والجنوبية !


أعرفها منذ أن كانت تهرب من التخت فجأة، وتختفى تحته عندما تفد قطة داخل الصيوان !


ومنذ أن كانت هى وأفراد التخت يسافرون من الفجر مقابل أجر متواضع إلى أن يصلوا فى المساء إلى قرية صغيرة لإحياء فرح، فتجد القرية مظلمة وتبحث عن دار أهل الفرح وتطرق باب الدار فيقولون لها بكل بساطة :


«الله! ما هو الفرح اتأجل فتقول لهم : الله! ولماذا لم تخطرونا بالتأجيل ؟


فيقولون لها بكل بساطة : الله ! ما هى كل البلد عارفة؟!


ثم يتحدث فكرى أباظة عن ثقافتها فيقول :


كم ألف بيت من بيوت الشعر والزجل حفظتها «أم كلثوم» ورددتها وغنتها، ورنمت بها الآذان والأذهان والرءوس والقلوب ؟، كما ألف بيت، والله إنها - هى - لا تدرى فمن يا ترى يضع لنا تلك الإحصائية ؟!


* على بلد المحبوب


وفى زمن الحرب العالمية هزم صوت أم كلثوم صوت القنابل والغارات، وتجلى فانحسرت دونه كل الأصوات، وهو يبرز صورة مصر بنيلها وناسها لتملأ قلوب مواطنيها وليخفق كل قلب وطنى بمصريته وهى تغنى من كلمات أحمد رامى :


يا مسافر على بحر النيل أنا لى فى مصر خليل


من بعده ما بنام الليل على بلد المحبوب ودينى


وعن هذه الأغنية وسر هذا الصوت المنتمى يقول عبد النور خليل فى كتابه :


كنا فى زمن الحرب العالمية الثانية، وكنا نتعرض كثيرا لساعات الإظلام أثناء الغارات، وننتظر ساعات، وليس هناك من ضوء غير أشعة عملاقة تتجول فى السماء بحثا عن الطائرات المغيرة، وكان عندنا فى الشقة الصغيرة التى نقطنها فى حى شبرا راديو من الطراز القديم يعمل ببطارية أكبر منه حجما، وكنت أمضى ساعات «الغارة» أعبث بمؤشره وموجاته، ورغم المارشات العسكرية التى لا تنقطع من إذاعتين .. محطة عربية تتبع الحلفاء بلاشك تسمى نفسها إذاعة الشرق الأدنى، وأخرى ألمانية تسمى نفسها «إذاعة برلين العربية» كانت كل منهما تصب دعاية وتنشر أخبارا عن الحرب وسير المعارك إلا أن مادتها المفضلة التى تجذب الانتباه إليها كانت صوت أم كلثوم وأغانيها، كانت ساعات الغارة تمضى حثيثة، وقد يجتذب انتباهى انفجار أو صوت مدو، أو تنساق عيناى وراء تلك المصابيح المضيئة التى تلقيها الطائرات المغيرة وتتعلق بين السماء والأرض قبل أن ينطفئ نورها .. كنت أطلق خيالى أسيراً لأحلام ورؤى ليس فيها على الإطلاق أى خوف من القنابل المتفجرة وأنا أسمع صوتها تغنى «على بلد المحبوب ودينى» .


* الزهرة تحت الندى


لقد حاول معاصروها أن يجلوا سرها فهذا أحمد رامى يصفها فيقول :


إنى أحتشد لسماعها كما استقبل عيدا من أعياد الدهر .. أحب أن أقضى وقتى لسماعها وحدى لينمحى كل جرس من أذنى عدا صوتها المنتظر ثم أدخل قبل رفع الستار بقليل حتى إذا رفع الستار ملأت عينى منها فى لحظات، ثم تبدأ الآلات تعزف فأرى مبلغ بشاشتها إلى استماع النغم ولست أعرف أحدا من الذين يغنون يطرب لسماع أو انبجاس الأوتار بالنغم كهذه الشادية، فإنها إذا سمعت رجع الأنغام أصابتها رعشة خفيفة، ثم تدب بقدمها دبا خفيفا ثم تمد جيدها وترمى بعينيها نظرة سابحة إلى آفاق بعيدة حتى إذا خفت النغم انسرب صوتها لينا رقيقا، فكأن الأوتار الصادحة لم تكف عن العزف ثم ينبثق صوتها كما تنبثق الزهرة تحت الندى .


* أوبرا أم كلثوم


وأم كلثوم التى وصفها أنيس منصور فقال : أم كلثوم أذابت الناس فيها أو ذابت هى فى الناس، فهى تغنى لهم أو هم يغنون لها أو هى تصفق لهم وهم يغنون لها» قد وضع يده على شىء من سر أم كلثوم، فأمكنه أن يقول :


إن صوتها سيبقى مئات السنين متعة شرقية ووثيقة تاريخية فهى السيدة الوحيدة فى العالم .. المطربة الوحيدة فى العالم التى تغنى الأغنية الواحدة فى ساعة وفى ساعتين.. إن الأوبرا التى يشترك فى غنائها العشرات من المطربين المختلفى الأصوات والأشكال والأزياء ووراء هم مناظر وديكور وستار يعلو ويهبط لا تزيد هذه الأوبرا على ساعة ونصف الساعة، وأحيانا ساعتين تتخللها استراحات قصيرة أو طويلة، ولكن أم كلثوم بفستان واحد ومنديل واحد، ووقفة واحدة وأوركسترا واحد ومنظر واحد ولحن واحد، وفى ليلة واحدة تستطيع أن تذيب الناس فى عرق ودموع.


* كروانة الشرق


تعاونت أم كلثوم مع كثير من الملحنين إلا أن محمد القصبجى هو أكثرهم تلحيناً لها فقد لحن لها أكثر من 120 أغنية، وقد كان من أوائل ما لحنه لها قصيدة لرامى بدأها بقوله : «إن حالى فى هواها عجب»، وكان القصبجى هو الذى اختار الشيخ محمد العقاد عازف القانون وعازف الكمان سامى الشوا لكى يكون الثلاثة تختا معاصرا خلف أم كلثوم وهى تغنى، وقد تعاونت أم كلثوم مع موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب مدة دامت تسع سنوات قدم فيها لسيدة الغناء العربى عشر أغنيات كانت عطاء خاصا متفردا ومنها «أنت عمرى» 1964 والتى كانت لقاء السحاب بين غناء كوكب الشرق وألحان عبد الوهاب وكلمات أحمد شفيق كامل، وهو العمل الغنائى الذى تم تحقيقا للوعد الذى ارتبط به عبد الوهاب وأم كلثوم أمام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فى عيد العلم، وهو يكرمهما معا بوسام العلوم والفنون بأن يتعاونا فى تقديم عمل غنائى معا .


وإذا كان خبراء الموسيقى يقولون أن حنجرة أم كلثوم لا يمكن أن تتكرر أكثر من مرة كل مائة عام فإن أم كلثوم لما أصبحت كروانة الشرق ضاعفت ساعات تمرين حنجرتها وضاعفت الساعة التى تمضيها فى عمل البروفات، فهل كان ذلك أيضا أحد أسرار عبقرية أم كلثوم كما يراها على أمين ؟


* سينما أم كلثوم


وقد أبرز عبد النور خليل فى كتابه ذلك الانتماء العميق الذى ميز شخصية كوكب الشرق، فهى لم تنفصل أبداً عن واقع مصر، وواقع نشأتها فى ريف مصر حتى وهى تختار الإطار الذى تطل منه على الجماهير فى الفيلم السينمائى فقد كانت واعية تمام الوعى بالشخصية المصرية، فيقول :


«وكانت هذه الشخصية المصرية المنفردة بالمزايا القومية الأصيلة فى شعبنا قد بدأت تنمو فى مصر فى الثلاثينيات نموا متصاعدا، وما كانت أم كلثوم تنفصل عن هذا النمو فاختارت أن تعبر فى شخصيتها السينمائية عن أبرز ما فى هذه الشخصية من الأصالة والحب للأرض والمنبت فى فيلمها «وداد»، ومن الوفاء والأصالة إلى حد التضحية بالنفس فى فيلمها «دنانير»، وحتى فى أواخر أفلامها «فاطمة» كانت بنت الحى الشعبى الوفية الأمينة المخلصة التى تتحمل عناء الحياة اليومية فى طيبة وارتباط بالمجتمع المحيط بها مما يدفع هذا المجتمع إلى مساندتها فى أزمتها فى قصة الفيلم .


لم تزد الأفلام التى مثلتها كوكب الشرق للسينما على ستة أفلام وهى «وداد» «1936»، و«نشيد الأمل» «1937»، و«دنانير» «1940»، و«عايدة» «1942»، و«سلامة» «1945»، و«فاطمة» «1947»، ولم تزد الفترة التى اهتمت فيها بالعمل فى السينما على مدى عشر سنوات من تاريخها الفنى، ولكن هذه الأفلام الغنائية الناجحة كان لها بصمة مميزة.. ففيلم «وداد» كان أول فيلم مصرى ناطق يعرض فى مهرجان فينسيا السينمائى الدولى عام 1936، وقد هداها ذكاؤها الفطرى إلى أن تختار أفلاما تكون البطولة فيها لامرأة وكانت شغوفة بالتراث والشعر العربى القديم منذ بدأ أحمد رامى يطلعها على دواوين كبار الشعراء العرب وكلفته بأن ينقب فى التراث عن قصص المطربات فى العصرين الأموى والعباسى واهتدى رامى إلى النغمة الصحيحة وإلى معين لا ينضب فى هذا التراث، وتحققت أمنية طلعت حرب رائد الاقتصاد المصرى الذى كان يعتبرها فنانة القمة وواحدة ممن يشكلون الشخصية القومية المصرية التى دعا إليها وحرص على تنميتها، والذى كان يود لها أن تمثل وتغنى فى فيلم ينتجه استوديو مصر، ومن العجيب أن الفيلم الوحيد الذى لم يتم فى حياة سيدة الغناء العربى هو فيلم «ثومة» الذى كان سيخرجه يوسف شاهين ورغم أنها وافقت على الظهور فيه فى الحقبة الأخيرة من حياتها، واحتفظت بحق الموافقة على الممثلة الشابة التى ستمثل صباها وشبابها بعد أن يختارها يوسف شاهين، إلا أن هذا الفيلم «ثومة» لم يتم .. وإن كانت أم كلثوم قد وقفت على الشاشة ممثلة ومطربة فى سينما خاصة بها وحدها هى سينما أم كلثوم .


* اعملوا لمصر


لقد عاشت أم كلثوم فى مناخ ساعد على نمو موهبتها فقد امتدت حياتها عبر ثورتين، عبر انتفاضتين لبناء الشخصية المصرية والقومية وتغذية جذورنا العربية، وكانت وجدان مصر ككل العبقريات المصرية التى عاشت فى زمانها وصاحبت عصرها فقد فتحت عيونها على ثورة 1919، فى مناخ الثورة المصرية الذى تربى فيه سيد درويش وتوفيق الحكيم وطه حسين، وكتب حسين هيكل أولى قصصه المصرية «زينب» وسعى طلعت حرب لإقامة بنك مصر، وأفرزت الثورة عبقريات مصرية وقادة رفعوا شعار : اعملوا لمصر.. أم كلثوم التى تربت فى هذا المناخ، وعاشت ثورة مصر عام 1952، وغنت للثورة ولجمال عبد الناصر هى الصوت القادر الذى قاد الناس للتغلب على جراح نكسة 1967، فلم تمض شهور قليلة على النكسة إلا وأعلنت أم كلثوم أنها ستغنى لمصر وتجمع التبرعات بغنائها لصالح المجهود الحربى لإعادة تسليح جيش مصر، وبدأت مجموعة من الرحلات على نطاق العالم العربى، تقيم الحفلات وتتلقى التبرعات وكل ريع حفلاتها وهبته لمصر، وارتحلت بحفلاتها الغنائية إلى الكويت والإمارات والسودان وليبيا والمغرب ثم توجت هذا كله بالغناء فى باريس على مسرح الأوليمبيا فى عاصمة النور.


ويؤرخ عبد النور خليل لتلك الرحلات فى كتابه فيقول :


«كنت أعمل مع الراحل الكبير أحمد بهاء الدين، وكان رئيساً لمجلس إدارة دار الهلال ورئيساً للتحرير وتلقانى ومعى طموحاتى فى تغطية رحلة أم كلثوم إلى باريس عاصمة النور، وطلبت منه أن يتركنى أتعامل مع الوكالات العالمية العاملة فى مصر، واتفق معهم على أن تخصص كل وكالة مصورا يعمل معنا فقط ليتابع أم كلثوم فى باريس وينقلون لنا حفلها الغنائى على مسرح أوليمبيا فى منتصف نوفمبر 1967، ولم يتردد أحمد بهاء الدين رغم التكاليف الباهظة .


وعدت أصدر عدداً خاصاً للمرة الثانية موضوعه العظيمة أم كلثوم «الكواكب 21 نوفمبر 1967» وزدت عليه بتحقيق خاص فى عشر صفحات من «المصور» 24 نوفمبر 1967 عن أم كلثوم فى حفلها على مسرح الأوليمبيا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.

ساهم بنشر الموقع و لك جزيل الشكر